التطور الثقافي وذهنية التحريم: تحليل شامل مع يوسف هريمة
الإصلاح الديني والتجديد في العالم العربي: رؤية يوسف هريمة
خالد محمود
في عالم الفكر والثقافة، لا تُحسب الإنجازات بعدد الكتب والأبحاث فقط، بل بعمق التأثير والقدرة على إثارة الحوار والتساؤلات. يوسف هريمة، الباحث والكاتب المغربي، يُعد من الأسماء اللامعة في ميدان الدراسات الدينية والثقافية والفكرية في العالم العربي. من خلال مسيرته الغنية، قدّم هريمة إسهامات فكرية تتناول قضايا معقدة وشائكة مثل الأصولية الدينية، التطرف، والتثاقف بين الأديان.
في هذا الحوار الشامل لـ “الجمهورية والعالم “، يفتح هريمة قلبه وعقله ليتحدث عن مسيرته الفكرية، والدوافع التي قادته لتناول مواضيع حساسة في كتبه مثل “ولادة المسيح وإشكالية التثاقف اليهودي والمسيحي” و”تفكيك الخطاب الأصولي”. كما يتطرق إلى تحليلاته العميقة في كتابه “الفكر الديني السني وأزمة البنيات المؤسسة”، ويشاركنا رؤيته حول الأصولية الإسلامية والتسامح والتطرف.
يجيب هريمة بعمق وتفصيل عن تساؤلات حول تأثير ذهنية التحريم على التطور الثقافي، وآليات السيطرة الثقافية التي تعرقل التقدم. كما يقدم رؤيته للإصلاح الديني في العالم العربي، وسبل تحقيق توازن بين التراث والتجديد في الفكر الإسلامي. الحوار يغوص أيضاً في تقييم تجارب تطبيق الشريعة في الدول الإسلامية المعاصرة، ويطرح البدائل التي يقترحها لضمان حقوق الإنسان ضمن إطار الشريعة.
وفي ختام هذا الحوار المثري، يشارك هريمة تحدياته المستقبلية، ويقدم نصائح قيّمة للشباب العربي المهتم بالشأن الديني والثقافي. إنه حوار مع باحث وكاتب لا يخشى الغوص في أعماق القضايا الجدلية، ساعيًا دوماً إلى إشعال شرارة التفكير النقدي والحوار البنّاء في مجتمعاتنا
بداية، حدثنا قليلاً عن نشأتك وكيف بدأت اهتمامك بالشأن الديني والثقافي والفكري؟ من هم
المؤثرون الأساسيون في مسيرتك الفكرية؟.
حديث البدايات دوما حديث صعب لأنك لا تعرف تحديدا اللحظة التي تختمر فيها التحولات الفكرية والنفسية والثقافية في مسار أي شخص منا. ولكن ما هو مؤكد على كل حال هو أن الحياة الفكرية تتولد من خلال التراكمات التي يحصلها الإنسان في مساره الدراسي والمعرفي والعلمي.
وهنا يمكن أن أجزم بأن التحول الحقيقي في مساري المعرفي هو الحياة الجامعية حينما التحقت بجامعة الحسن الثاني كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك تخصص الدراسات الإسلامية.
وبما أن حياة الطالب الجامعي يؤثر فيها الأساتذة فقد تأثرت بداية بمجموعة من الأساتذة حينذاك، وعلى رأسهم الدكتور مصطفى بوهندي الذي كان وقتذاك هو المحرك والمحفز على الأسئلة والأفكار، والخروج مما هو مألوف وسائد في بيئة تبدو بأنها تمتح من الكثير من التقليد والجمود والتكلس الفكري والمعرفي.
ولأنني صحبت هذا الرجل عن قرب فقد كان بحث تخرجي لنيل الإجازة في الدراسات الإسلامية باعثا جديدا على التعرف أكثر على موضوع لم يطرق من قبل بشكل أكاديمي وباستخدام آلية التفسير الموضوعي.
هذا الموضوع عرفني على نفسي بشكل أكبر، لأنه لم يتح أمامي الكثير من المراجع، والمصادر، والكتابات والدراسات السابقة، ووجدت نفسي أصارع موضوعا كبيرا بمجهودات ذاتية، وبمتطلبات طالب في بداية مساره العلمي.
هنا بدأ مسار الكتابة، لتتحول إلى شغف، خاصة وأن الدكتور بوهندي سيفتتح وحدة للدكتوراه بعنوان مستقبل الأديان والمذاهب الدينية في حوض البحر الأبيض المتوسط، وسأجد نفسي مرة أخرى طالبا فيها، وبنفَس آخر أكثر خبرة، وأعمق اشتغالا، لأن الوحدة السالفة اعتمدت في مقاربتها لقراءة الأديان والمذاهب قراءة منفتحة ومتكاملة تستحضر مختلف العلوم والمعارف والتخصصات. وهكذا سأجد نفسي مضطرا للانفتاح أكثر على باقي التخصصات المعرفية من أجل الاستيعاب، والفهم، والخروج من حالة العزلة التي تفرضها عليها بعض التخصصات المنغلقة معرفيا وثقافيا كما هو حال شعبة الدراسات الإسلامية.
كتابك “ولادة المسيح وإشكالية التثاقف اليهودي والمسيحي” يعتبر دراسة تحليلية مقارنة. ما الذي دفعك لتناول هذا الموضوع تحديداً؟
الكتاب يرمي إلى بيان جوانب التأثير والتأثر بين الأديان من خلال قصة ولادة المسيح. فمن خلال البحث في هذا الموضوع، يتبين أن غالبية العقائد والأفكار والتصورات التي استقى منها الفكر المسيحي مصادره، كانت يهودية بالأساس، تعتمد على العهد القديم، وكتابات المبشرين المتأثرين بالنبوءات اليهودية التوراتية.
والخطير في حركة التثاقف هذه هو انتقالها إلى المجال التداولي الإسلامي، لتصاغ من جديد، في قالب روائي، مررته قواعد وأصول وضوابط، بدل أن تحمي هذا المجال من التأثر بما حذر منه القرآن الكريم، وإعادة تركيبه، قامت بالمحافظة عليه في التفاف واضح على مقررات الدين.
إن قصة ولادة المسيح هي نموذج للغزو الفكري أو الثقافي العابر للحدود، وتأثيرها على ذهنية اليهودي والمسيحي والمسلم يفوق المتخيل.
فكل الأحداث السياسية والعنف المطلق الذي نراه اليوم، ونعيش أحد أخطر فصوله هو تجلٍّ واضح من تجليات هذا المسلسل التثاقفي، لما لهذه القصة من أثر عميق في توجيه الفكر الديني عموما، والمسيحي منه على وجه الخصوص.
وهذا التباين في وجهات النظر المختلفة حول كل مجريات ومستلزمات هذه القصة، كان راجعا بالأساس إلى إشكالية تعدد المصادر التي استقى منها الفكر المسيحي تصوراته وبناءه العقدي والفكري، الشيء الذي يعتبر ضروريا من الناحية المنهجية ونحن نتناول قضية لها وزنها في الفكر الديني عموما. ولها أيضا تبعات خطيرة تتجاوز في مداها البعد الديني إلى آفاق السياسة والاجتماع، وغير ذلك من المجالات.
في كتابك “تفكيك الخطاب الأصولي” أجريت حوارات مع كبار المثقفين والمفكرين العرب. ما أبرز الأفكار التي أثرت فيك خلال هذه الحوارات؟
تعترض العقل المسلم اليوم جملة من التحديات المعرفية والفكرية والثقافية إلى جانب الصعوبات المرتبطة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية. وقد يطرح الإنسان في سياق كل هذا الاستعصاء والانحدار الذي وصلته مجتمعاتنا عن الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمات من توجهات ترى بأن العالم الإسلامي مشكلته هي مخلفات الاحتلالات التي تعرضت لها مجتمعاته على مدار تاريخ طويل من عمرها، وبين توجهات أخرى ترى في كل أزمة فرصة لفهم الواقع على أساس أن النقد هو عملية تفسير معكوسة باتجاه الذات وليست باتجاه الآخر.
هنا يأتي هذا الكتاب الذي هو ثمرة عمل كبير بالاستعانة بمفكرين كبار ومثقفين من مختلف الشعب والتوجهات والتيارات الفكرية الموجودة في العالم العربي والإسلامي، وكانت الغاية منه هو تفكيك أحد أكبر تجليات الأزمة الفكرية في مجتمعاتنا المعاصرة ألا وهي الخطاب الأصولي. قد نتفق وقد نختلف في تشخيص الأزمات على مدار هذا التاريخ الطويل من الاستعصاء الفكر الذي نمر به جميعا. غير أننا كلنا نتفق ونشعر ونحس بالحاجة إلى التفكيك. والمقصود هنا ليس فقط تشريح الواقع ووضعه أمام القارئ ليظل المتلقي سلبيا في هذه الحالة أو تلك. لكن الغرض أعمق من ذلك حينما ينخرط القارئ بدوره في تحريك عجلة النقد المفقودة في عوالمنا.
كيف ترى أهمية النقد في كتابك “الفكر الديني السني وأزمة البنيات المؤسسة” في السياق المعاصر؟
ينهل الفكر السلفي الديني عموما والسني منه على وجه الخصوص من مجموعة من الأصول والقواعد والبنيات، التي تؤسس – لمن يتبنى هذا النهج – المسار والفكر والتصورات المختلفة، حول علاقة الإنسان بنفسه والمحيط الذي يتواجد به. هذه البنى والمرتكزات شكلت ولا تزال مرجعيات في التحاكم عند هذا العقل السلفي السني، ومفترقا بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، وبين السلم والحرب كما هو متداول في أدبيات هذا الفكر، بأشكال تختلف في المظهر، وتتفق على مستوى الجوهر والمضمون. ليس عيبا أن ينطلق الإنسان من منهج يؤطر فكره أو يضبط اجتهاده، أو يؤسس من خلاله لعلاقاته المختلفة. ولكن العيب أن يتحول المنهج والبنيات المؤسسة إلى مفترق يصير فيه الإنسان متألها في هذه الأرض، يتكلم بلسانه ويوقع باسمه على حد تعبير ابن قيم الجوزية في كتابه:” إعلام الموقعين عن رب العالمين “، أو يتجاوز تحت أي ظرف من الظروف ملابسات تشكل الفكر والوعي من ثقافة وتربية ونفس واجتماع، ويصير الفهم أو التأويل أو التفسير أو القواعد خيارات حتمية تقذف بالإنسان إلى المجهول ولو تلبس بلبوس العلم والمعرفة.
في كتابك “الأصولية الإسلامية واستحالة التسامح”، كيف تعرّف الأصولية وما هي أبرز معوّقات التسامح في الفكر الأصولي؟ ما هي الأسس التي تجعل التطرف الديني ظاهرة مستمرة في العالم العربي؟
موضوع الأصولية الذي نتحدث عنه في هذا السياق هو موضوع مختلف عن الأصول كما يتم تداولها في المعرفة الإسلامية، فالأصولية أتت كترجمة لمصطلح Fundamentalism ويقال بأنها لفظة إنجيلية مشتقة من لفظة أخرى هي ” Foundation ” بمعني أساس أو مؤسسة.
كما أن البعض يرجع ظهور هذا المصطلح إلى رئيس تحرير مجلة أمريكية إسمها “” New york watchman examiner في العام 1920م، حيث عرف الأصوليين بأنهم : ” أولئك الذين يناضلون بإخلاص من أجل الأصول “.
وباختصار شديد الأصولية الدينية ( Fundamentalism ) هي مصطلح ظهر في حقل السياسي والديني والفكري ليؤشر على تيارات سياسية دينية متشددة ” تمتلك نظرة متكاملة للحياة بكافةّ جوانبها ” السياسيةّ والاجتماعيةّ والاقتصاديةّ والثقافيةّ، وهي ناجمة عن قناعة متأصلِّة نابعة عن إيمان بفكرة أو منظومة قناعات، تكون في الغالب تصورا دينيا أو عقيدة دينيةّ.
وإذا أردنا أن نربط نوعا من العلاقة بين العنف والأصولية، فسنجد أن هناك الكثير من الوشائج الجامعة بينهما يمكن اختصارها فيما يلي: النرجسية وجنون العظمة التي تسم العقل المسلم، إضافة إلى عقدة الاصطفاء وامتلاك الحقيقة المطلقة، والصرامة العقلية. ناهيك عن المبدأ السكوني الذي يجعل من الأصولي شخصا ثابتا يرفض فكرة التغيير.
من خلال كتابك “العقل العربي وذهنية التحريم”، كيف تقيّم تأثير ذهنية التحريم على التطور الثقافي والاجتماعي في المجتمعات العربية؟
قد يناضل الإنسان كثيرًا من أجل تحرير نفسه من الاعتقالات التي تطال جسده، فتسجنه، أو تحد من حركته، وديناميته، وقد يناضل أيضا سعيا إلى تحسين أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية.
ولكن قليلا ما نلتفت إلى أننا نعيش أيضا بـ “عقل معتقل” كما يدعوه أدونيس، وهو عقل مكبوت، ومسجون، ولكن بين جدران تاريخ من التضليل والقمع، وهنا يبدأ النضال؛ لأننا في الواقع لا نقدر أن نغير ما نجهله، وإنما نغير ما نعرفه.
لقد كتب أدونيس مقالته الشهيرة بـ: “العقل المعتقل” ليضعنا أمام هذا التمايز، وهذه المفارقات التي يعيشها الإنسان عموما، حينما يعتقد بأن الاعتقال كما جرت عليه الأدبيات القانونية، أو الحقوقية هو وضع الإنسان بين جدران أربعة، أو هو نوع من سلب حريته، والحد من حركته، في حين أن الاعتقال الحقيقي هو أكبر من هذا وذاك، حين نتحول إلى ضحايا عقل بدل أن نفكر به، نسجن فيه، وتتقلص إمكانيات تحقق وجودنا الفعلي داخل نسق إنساني ينشد التحرر، ولكنه يفقده بفعل هذا النزوع نحو النضال بأفق مسدود، غالبا ما يتحول إلى استلابات جديدة، وبمظاهر أخرى من أشكال العبودية والاستعباد.
في كتابك “حصون التخلف”، تحدثت عن آليات السيطرة الثقافية. ما هي أبرز هذه الآليات وكيف يمكن تجاوزها؟
كلنا أو جلنا أو بعضنا قد طرح يوما ما هذه الأسئلة: لماذا نحن متخلفون؟ وهل التخلف قدرٌ لا يقبل التجاوز أم هو شروط موضوعية تبدأ بالتفكك بناء على استيعاب للمعطيات الواقعية ثم تجاوزها بعد أن نحسن التشخيص ؟.
كذلك كثيرون منا قد طرحوا أسئلة أخرى في سياقات مختلفة: لماذا لا تتقبل مجتمعاتنا منا أن نكون أحرارا نتنفس ولو جزءا من إنسانيتنا وكينونتنا المختطفة؟.
وهل التاريخ الذي نقرأه اليوم ويراد لنا أن نردده هو التاريخ نفسه الذي وقع في زمن ما أو مرحلة معينة من هذا الزمن اللامتناهي أم التاريخ الحقيقي هو ذلك التاريخ غير المكتوب وليس ما تم تسطيره في مرحلة معينة من مراحل بناء مجتمعاتنا؟.
نقول ذلك لأننا نعرف بأن الإنسان يولد معافىً إلا من سموم التّاريخ، بها وفيها يتشكل عقله. ولكي يستعيد نقاءه عليه أن يكون خاليا من التاريخ ليكون مليئا بالحقيقة على رأي عبد الرزاق الجبران.
كل هذه الأسئلة وغيرها تجرنا بشكل أو بآخر إلى أن نخوض تجربة نستحضر فيها هذا الاستعصاء الذي نعيشه ونحياه بوعي منا أو بغير وعي. لأننا نحتاج بالفعل إلى السؤال، لأنه وحده القادر على أن يجعلنا نبوح، أو نقول، أو نجرؤ على ما يمكن أن يكون بالفعل مأساة أو قلقا وجوديا يكشف عن محدودية وجودنا.
شاركت في كتاب “مقاربات معرفية في الإصلاح الديني”. ما هي رؤيتك للإصلاح الديني في العالم العربي؟ كيف يمكن تحقيق توازن بين التراث والتجديد في الفكر الإسلامي؟
إن عملية الإصلاح الديني لا يمكن أن تؤتي أكلها إذا استمر الإصلاح بعنوان سياسي، إذ الإصلاح هو البحث عما فسد من بنيات الفكر. وهذا لا يمكنه أن يتأتى إلا في ضوء قراءات نقدية جادة، وفسح المجال للبحث النقدي، وليس البحث الذي يكرس الواقع الفكري لما يسميه البعض بالخصوصيات المحلية، فالنقد لا يخالف الخصوصية، بل يزكيها ويطورها لتصبح خصوصية معرفية وعلمية، وليست بقايا من ماضي يمكن أن تنعكس على نمو المجتمع الفكري والثقافي.
وإذا أردنا أن نخلق نوعا من التوازن بين التراث والتجديد الديني، فلا بد من إزاحة القراءة السلفية، لأنّ القراءة السّلفية للموروث الدِّيني كما يرى الجابري هي قراءةٌ لا تاريخية في تمجيدها للماضي.
لهذا يَقترح:
ضرورة القطيعة مع الفهم التّراثي للتراث: بما أنّ الفكر العربي المعاصر كلّه، ينتمي من ناحية المنهج والرؤية للاتّجاه السّلفي في التّفكير. لا يجب الاختيار بين هذا المنهج، أو ذاك من المناهج الجاهزة سلفاً (القراءة السلفية/ الليبرالية/ اليسارية). بل فحْص العملية الذِّهنية التي سيتمّ بواسطتها، ومن خلالها استخدام المنهج. بمعنى آخر علينا نقد العقل، لا استخدامه بهذه الطّريقة أو تلك.
فصْل المقروء عن القارئ مشكلة الموضوعية: ليست الموضوعية هنا بالمعنى المتداول لها. فما يريده الجابري مثلاً، أعمق بكثير من الدّلالة العادية، التي يقتضيها اللّفظ في مجال تداوله اللّغوي. فالموضوع هنا هو التّراث بشكلٍ عام، والمطلوب هو إيجاد فصل بين القارئ، وهذا الموضوع، لأنّ هناك اتِّصالاً كبيراً بين الإنسان العربي المعاصر، وتراثه إلى حدٍّ يصعب فصله. فهو الذي يشكِّل وجدانه، وفكره، وأحاسيسه. ففصْل الذّات عن التّراث عملية ضرورية، لأنّها تشكِّل الخطوة الأولى نحو الموضوعية، والمكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة. ولاكتساب هذه الخطوة يقترح:
المعالجة البنيوية
التّحليل التاريخي
الطّرح الأيديولوجي
وصْل القارئ بالمقروء مشكلة الاستمرارية: اختراق حدود اللّغة والمنطق لا يتمُّ إلا بالحدس، فهو الذِّي يجعل الذّات القارئة تعانق الذّات المقروءة، فتعيش معها إشكالياتها ومشاغلها، وتحاول أنْ تطلَّ على استشرافاتها.
في كتاب “مفهوم تطبيق الشريعة عند دعاة الإسلام السياسي”، كيف تقيّم تجارب تطبيق الشريعة في الدول الإسلامية المعاصرة؟ ما هي البدائل التي تقترحها لضمان حقوق الإنسان في إطار الشريعة؟
يبدو من خلال هذا المسار التّحليلي لعقلية تؤمِن بتطبيق الشّريعة وفقاً لأهدافها وتصوّراتها أنّنا بإزّاء أزمة حقيقية في بنية العقل السّلفي الحركي السّياسي، بتلاوينه المختلفة.
فما نشهده من مظاهر العنف السّياسي والعقدي، هو نتاجٌ لهذه المدرسة الفكرية التي ما فتئت تحلم بعودة الخلافة ومفاهيمها، وكلّ ما أُنتج حولها من فقه سياسي أثبت بأنّه لا يستطيع أنْ يواجه متطلّبات العصر، واللّحظة الآنية. فكلّ ما يستطيع فعله لحدود الآن هو تهجير العزَّل، وتهديم دُور العبادة، والتسلّط على المغانم، والقتل على الهُوية الدينية، في تحالفٍ شيطانيّ مع النّظام العالمي الجديد، حيثُ يوفّر له الإمكانيات، ويغضّ الطّرف عن جرائمه وشعاراته.
والتساؤل المحيّر هنا ليس هو صدقُ الشّعار من بطلانه. فما تحمله عبارة تطبيق الشّريعة هو عملية دمج خطير لأحكامٍ صيغت في سياقات مختلفة، لتصير بفعل الإكراه مراداً ومقصداً لله، وهو ما أطلق عليه الأصوليون ” مقاصد الشريعة “.
حيث يتحوّل قتل المرتد إلى رغبة إلهية، وكذلك بترُ يد السّارق، ورجم الزّاني المحصن، وغيرها من مخلّفات الفقه التلمودي. فالمماثلة بين الله تعالى الذي ليس كمثله شيء، وبين الحاكم المتسلّط في منظور هؤلاء لم تغِبْ يوماً، حيث أنّه عوض أنْ يتلبّسوا بقيم الله الوجودية من خير ومحبة وحياة، لبّسوا الله قيمهُم، فلم يتبقّ من الدين والشريعة غير ما نراه اليوم من قتل ممنهج لجميع مقوّمات الحياة الإنسانية باسم الدين.
يتجلّى خطر دمج الدين في السياسة من خلال هذا المدخل الرّهيب. والدعوى إلى الفصل بينه وبين الجانب السياسي، هو تعريةٌ لهذا الدّمج الذي يوظّفه اللاّعبون في المشهد الديني توظيفاً مغرضاً، في مقاربة سلطوية هدفها التّمكين من مقدّرات الوطن والشعوب والأمم.
لهذا وجب المطالبة بضرورة الفصل والتمييز بين الدّنيوي والديني، كي لا تلتبس أخطاء النّاس بالدّين. وبالرّغم من أنّ مفهوم العلمانية مفهوم ملتبس وتكتنفه ضبابية التوظيف.
إلا أن ما قامت به ميشلين ميلو والمسيري وغيرهم، كفيلٌ بأنْ يعيدنا إلى جادة الصواب. فليس الهدف من الفصل بين الدّيني والسياسي هو محاربة التدين الشعبي كما يحلو للبعض أنْ يتوهّم، ولا هو ضربٌ للقيم الأخلاقية. بقدر ما هو كشفٌ للتوظيف المغرض للدين، وكذلك عدم تحول التجربة السّياسية إلى تجربة إلهية مطلقة كما عرفتها أوروبا في فترة من الفترات.
في كتاب “التسامح في الثقافة العربية رؤية نقدية”، كيف تقيّم مستوى التسامح في المجتمعات العربية اليوم؟ ما هي الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها لتعزيز ثقافة التسامح؟
استهدف البحث من خلال محاوره ثقافة الإقصاء في مختلف تجلّياتها. كما بحث عن البنيات الكامنة في ثقافتنا، ليكشف الصّورة أمام القارئ بشكلٍ واضح، رغبة من الباحث في أنْ يعاد تشكيل الصّورة الذّاتية للإنسان المسلم وفق أفقٍ إنساني، بعيدا عن ضيق التحيّزات الإيديولوجية والفكرية، وكذا النّظر إلى الذّات من منظور استعلائي اصطفائي، لا يمكن أنْ يعكس الصّورة الحقيقية لمن يدّعي أنّ رسالته جاءت رحمة للعالمين.
لم تتشكل الصّورة النّمطية حول المسلم المعاصر من فراغ، بل كانت الرّوافد الثّقافية هي الملهم الأساسي لصناعة النّموذج القديم والمعاصر، وارتباط العقل المسلم بالعنف في واجهاته المتعدّدة.
وبدل أنْ نستدعي المقاربة النّفسية ومعها باقي المقاربات الأخرى، ليعيد المسلم قراءة الذّات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التّراث والتّاريخ والثّقافة ممّا اختزنته من جهالات دينية. اختار هذا الأخير خطاب المظلومية ليتوارى خلف جرحه النّرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيّع على نفسه من جديد اكتشاف نرجسيته.
حاول البحث استجلاء صورة الإقصاء الدِّيني من خلال تمثّلات المسلم عن ثقافته الّدينية. فوجد بأنّ الحالة الذهنية الّتي يصدر عنها هذا العقل لا تخرج عن إطار ما سمّاه نيتشه بنظرية العود الأبدي كما سبق الإشارة إلى ذلك. وهي حالة غير منفصلة عن واقعها النّفسي والاجتماعي والسّياسي. فكلّما أحسّ المرء بخيانة واقعه له، ولم يجد بدٌّ من الخروج من حالات الاستعصاء الثّقافي، إلا وتكرّس الحنين نحو الماضي، بوصفه ردّة فعل لا إرادية عن حجم الإحباط الذي تتلبّس به النّفس في حالات ضعفها.
كما أنّ تعامل المسلم مع ذاته ومع الآخر من أفقٍ استعلائي يدّعي الخيرية على الأمم، والنّاس، والكون، ولَّد لدى هذا العقل شعورا بفكرة شعب الله المختار، أو الإنسان الأسمى. وهي الحالة التي تعبِّر عن نرجسية حادّة أفضت بالضّرورة إلى خيارات كارثية، جعلت الإقصاء بمعناه الشّامل هو المحدِّد الأساسيّ لسلوكيات المسلم. ومن هناك ساءلْنا القرآن الكريم بوصفه نصّاً مقدّساً عن موقفه من ثقافة الإقصاء، ليتبيّن لنا أنّ النص يؤسِّس لمشروع يهدم بُنى هذا الفكر، حينما أشار بوضوح إلى أنّ الإقصاء هو استمرار لطريق الجهل المقدّس، وادّعاءٌ لطهرانية مزعومة تكذِّبها الوقائع التّاريخية.
انتقل البحث أيضا ليسائل من جديد موضوعا آخر له ارتباطاته الموضوعية بقضيّة الإقصاء ألا وهو التّسامح. فأشار إلى ضبابية مفهوم التّسامح، باعتباره منحة يتبرّع بها العقل الإقصائي على مخالفيه، ليصير التّسامح وفق هذا التّصور هدنة بين توتّرين أو صراعين، في حين أنّ الإيمان بالاختلاف، وبحقِّ النّاس في اختياراتهم العقدية والسّلوكية تقتضي الاعتراف لا التّسامح. وهو ما جعلنا نفكِّك بُنى التعصّب في ثقافتنا أو بتعبير أدق: لماذا لا نتسامح؟. إنّه السؤال الذي حاول أنْ يقرأه البحث من سياقاته المختلفة، خاصّة مع الأصوليات الدّينية ومفاهيمها التي تنطق بحقيقة واحدة هي استحالة التّسامح. فما نشهده من مظاهر العنف السّياسي والعقدي، هو نتاجٌ لهذه المدرسة الفكرية وكلّ ما أُنتج حولها من فقه سياسي أثبت بأنّه لا يستطيع أنْ يستجيب لمتطلّبات العصر وشروطه الآنية.
في مقالك “مفهوم التنوير الديني وأسسه”، كيف تفسر خوف الأصوليين من التنوير الديني؟
خوف الأصوليين من التنوير الديني ناتج من جهة عن حالة نفسية وثقافية يعيشها العقل الأصولي، وتتجلى في خوف مرضي مزمن من كل ما هو جديد وآني ومعاصر، فالأصولية ترى في كل الأشياء المحدثة بدعة تستهدف الدين وجب التصدي لها. ومن جهة أخرى هو خوف ناتج كما أشرت في المقال المشار إليه عن مجموعة من المغالطات لعل أهمها عدم التمييز بين مسمى الدين، والتفكير الديني، فهذه الحالة من الخلط تجعل من عملية التجديد والتنوير أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا في بنيات فكرية معقدة ومغلقة وصعبة التواصل.
شاركت في العديد من الندوات والحوارات. كيف ترى دور الإعلام في نشر الفكر التنويري وتعزيز الحوار الثقافي؟
الإعلام اليوم خاصة مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، والتلفزيونات الخاصة كلها أوجه ووسائل يمكن أن يكون لها الدور الكبير في مسار التنوير الفكري والثقافي والديني، لأنها وحدها لها القدرة على مخاطبة أعداد كبيرة من الناس، وجمهور عريض من المتتبعين. لكن أي نوع من الإعلام يمكنه أن يقوم بهذا الدور، هنا يمكننا أن نتحدث عن التفكير في آليات جديدة يمكنها أن تحدثها نوعا من الخرق في الفضاء العمومي الثقافي على وجه التحديد، إذ لا بد من التعريف بطرق مختلفة عن أنماط التفكير النقدي، وخلق حالة من المعرفة الإنسانية العابرة للحدود، والمتجاوزة للذات والمألوف والسائد.
ما هي النصيحة التي توجهها للشباب العربي المهتم بالشأن الديني والثقافي؟
النصيحة التي يمكن أن أوجهها للشباب العربي وهي إعادة إحياء فعل القراءة، لأنه هو المدخل الحقيقي للتعرف على الذات والثقافة والفكر والاجتماع البشري.
حينما نقرأ كتابا أو صورة أو لوحة، يغدو هذا الشيء شيئا آخر، لأن القراءة ليست فقط ذلك النشاط الإبداعي الذي يميزنا عن كل ما هو غير إنساني. بل إن الكلمات المقروءة أو المشاهد، أو الصور تكون صدى لتجاربنا الخاصة، أو تهيئنا لتجارب جديدة، أو تروي لنا عن تجارب لن يكتب لنا الحظ أن نكون إحدى شخصياتها.
يروي لنا ألبرتو مانغويل أنه حين ابتلي سكان ماكوندو بداء يشبه فقدان الذاكرة، وأدركوا أن معرفتهم بالعالم بدأت تختفي بوتيرة متسارعة، اكتشفوا أن الكلمات وحدها هي الترياق. وكي يتذكروا ما كان في عالمهم كتبوا بطاقات، وعلقوها على البهائم والأشياء (هذه بقرة/هذه شجرة…).
لكن ما معنى أن لا تقرأ؟. إنه ببساطة أنك لم تغطس في سحر الوجود بعد.
اقرأ أيضا من حوارات الجمهورية والعالم:
“رؤية جديدة في عالم الأدب: الكاتبة أمل درويش تحكي قصتها وتشارك تجاربها”
“من الحب والشغف إلى عوالم الترجمة والشعر: قصة أمل الشربيني
“تأملات فنية: البحث عن العمق والمعنى في أعمال الفنانة اللبنانية هناء عبد الخالق”
“فن وأدب إخلاص فرنسيس: رحلة إبداع وتعبير عن الإنسانية”
القاصّة فاديا عيسى قراجة لـ«الجمهورية والعالم»: “أضع الرجل والمرأة تحت مجهر كتاباتي
الدكتورة عايدة الجوهري لـ«الجمهورية والعالم»: نوال السعداوي عززت فيّ روح التمرد
الجمهورية والعالم تحاور الشاعرة اللبنانية وفاء أخضر
” جريدة الجمهورية والعالم ” تحاور الشاعرة والاديبة اللبنانية نسرين بلوط
الجمهورية والعالم تحاور المخرجة الكويتية فرح الهاشم
الجمهورية والعالم تلتقي بفنانة الكاريكاتير الكويتية سارة النومس
الجمهورية والعالم تحاور الشاعر الجزائري علاء الدين قسول
خاص ..الجمهورية والعالم تحاور الفنان التشكيلى جمال مليكة
الجمهورية والعالم تحاور القنصل السنغالي في ميلانو
التعليقات متوقفه