الجمهورية والعالم تحاور الشاعر الجزائري علاء الدين قسول

0 1٬559

حاوره الشاعر والناقد: حسين علي الهنداوي

الشعر بساط أخضر منمنم تستريح عليه النفوس وتنعم بمعانيها وظلاله الوارفة، وهو روح خالد يبث في الشعراء كل مكنونات نفوسهم، ويعبرون فيه عن كل القضايا الاجتماعية والإنسانية، يصنعون منه عالما جميلا، ويبث فيه الشاعر أفراحه وأتراحه وأحزانه ومسراته.

  • ولقاؤنا اليوم مع شاعر من شعراء العربية حمل على عاتقه هموم الناس، ورسم من خلال قصائده روح المحبة والخير والجمال.
  • مع “الشاعر علاء الدّين قسول”:
الشاعر والناقد: حسين علي الهنداوي

س١_ بداية شاعرنا الجميل حدثنا عن طفولتك وشبابك الشعري، وكيف بدأت كتابة القصيدة؟

_ بادئا، أودّ أن أحمل لـلشّام خَالِص تَعازِيَّ، سائلا المولى –عزّ وجلّ- أن يتغمّد موتاكم وموتانا بالرّحمة والشّهادَة.

ج ١_ لَقَد بسطَتِ الطّفُولة يدها البيضاءَ لي حتَّى أصافحَها، فأخرجتُ من جيبيَ المثقوبِ دِينارًا لأُكرِمَهَا وقلمًا لأكتب على تلك اليدِ  قصيدتي الأولى: “الأبطال”، قاصدًا بهذا العنوان ما تألفُه الرّوح الجزائرية المحمّلة بغريزة الثورة والثّائرين،  كنت حينها على عتبة السنة الثّامنة من عمري مهيّأً -كما يبدو- لاِقتحام المجهول فعلا وقولا، تمامًا كتلك القصيدة التي كَتَبْتُ، اُبتلِيتُ بالبراءة الثّائرة، كان حالُ الطّفل الشاعر داخلي مندفعا كرصاصةٍ لم تشهد الألمَ بعد، لكنها مفطورة على الهدف  فاخترقَتْهُ، أو كصَقرٍ جارحٍ  يُمزِّق صفحة السماء ليلًا لِيَكشف عن زُرقتها، استطلاعيًّا كسحابة هُدهُديّة، متأمِّلا كشيخ واقفٍ على قُبَّة جَبَلٍ جرداءَ يُردّد “السّبع المَثَانِي”، وإذ بالقّمة تتعمّم بعمامَتِه البيضاءَ، فلستَ تَرى في القِمّة وقتَها إلّا بياض البياضِ، لقد ألقيتُ صنّارتي في البحر السّماويّ وانتظرت الكون –على مهل- ليُلقِيَ إليَّ سلامَهُ نَجمَةً ذهبيةً، هي القصيدةُ العربيّة.

أذكر أنّي أخبرتُ “أستاذ اللغة العربية” في مرحلة “التّعليم المُتَوَسِّط” بشَيء فاستغْرَبَه، قُلت: “إني أملكُ عالَما واسعا بِداخلي، أشعر أنه يُغْنِيني عن صُحبة النّاس”، إن هذا الملمح الارتدَادي نحو الذّاتِ استحوذ على طريقة تفكيري منذ البداية، ولم أجد له تخريجا واضحا حتّى سقطَت عيني – أيام الجامعة – على تشريح “مصطلح الخيال”، أدركت حينئذ فِعلَ هذا الكائن السّماويّ في صِبايَ، إذ استدرج ما وراء السّماء نحو الأرض واستنطق باطن هذا الكون المتكشّف لي بغيبيّاته سِرًّا.. سِرًّا، فكل مُحاولاتي في اكتشاف أسرار الطّبيعة كانت محاولات إِسقاطيّة جادّة في اكتشاف نفسِي التّي تمرّ عليّ صباحا مساء ولا ألقاها !هو تحدٍّ كبير، أليس كذلك؟ إنّها النّفس البشريّة المُتمَاثِلَة.

ربّما قلت الشّعر بعينيّ تأَمُّلًا حتّى تشرّبَنِي فنطَقتُ به مرّة بلسانٍ متلعثمٍ صبيًّا، ثم سكتُّ عنه سكتةً هي في العمر القصيرِ طويلةٌ، لِأَنطقَ به هذه المرّة – في سَنتي الجامعيّة الأولى – بلسان صارمٍ شابّا فتيًّا، فأقطفَ أوّل نجمةٍ من دوالِي القمَر، هي: مجموعتي الشّعرية الأولى الموسُومة بـ” حُقُولُ الْيَاسَمِين” سنة 2018، والآن أعود لتلك الطّفولة لأفتح صناديقها ما دامتِ المفاتيح خيالي القديم، كلّ صُندوق يُفتح هو في الحقيقة حلمٌ تحقق أو قصيدة كانت في الصِّبا تائهة أرشدتها اليومَ نحو مُدُنِ الْكَلامِ لِتَحمِل لقَبَهَا اِنْتِسابًا وشَرَفًا، لا فرق عندي فَهُما سواء، الحُلم والقصيدَة.

 

س٢_ للشعر معاني جميلة يحملها كل شاعر بحثًا عن واحة مَحَبَّة جديدة، عمّن تتحدث معاني قصائدك؟ 

ج ٢_ قصَائدي خرجت من عُنق الزّجاجة بعد مخاضات عسيرة، لم تَستشعِر حواسَّها الخمس إلا بَعدَ أن نُفِخَت الّروح في أحشائها، لذا فهي تُشبه الوليد -لحظة الولادة- يُبَاري الحياةَ لِأجل الحياةِ، لقد حرصت كثيرا –فترة تكوين الجنين الشّعري- على رِعايَة روحِه المَعنويّة، فاتّخذت لها جُملةً من المقاسَات، لِتَصيرَ بعد ذلك إلى ما هي عليه اليوم، مُستترةً ظاهرةً، قريبةً بَعِيدة، وحدانيّةً متعدِّدَةً.

إنّني أومن بالإنسان داخل الإنسان كما أومن بالقَصيدَة داخِلَ القَصيدة، هو الإيمان الّذي جعلني أوازي الشِّعر بالإنسان وما هذا الأخير -حسب خصوصيّة الرّؤية الأنثروبولوجيّة- إلا كُتلة انفعال.

طقس استحضار المعنى “الإلهام” لا يختلف كثيرا عن الوحي الإلهي، كلاهما يحتاج من الإنسان الشّاعر النّبيّ ارتقاء روحيّا في سلّم الصّفاء والخشوع، ألم يؤيّد جبرائيل –عليه السّلام- الشّاعر حسّان بن ثابت –رضي الله عنه-؟ ربما لم نكن لنعلم بهذا التّأييد القلبي المُنزّل على صفحات القلب “الحَسّانيّ” لو لم يبح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديثه: “وَرُوحُ القدُس معك”، ومن هنا تتهيَّأ الحزمة الكبرى من المعاني في قَصائدي لِتَسْبَحَ في مُطلَق العَنان الصّوفي وَحساسيّته الكونية المفرطة، فهو يجانِس الشّعرَ في التّأمليّة، إذ العالم الأدبي العربيّ أصبح اليوم مَسكونًا بالمعنى الرّوحاني مذ كشف حقيقة الوصوليّة المَادّيّة، لتتفرّع من دِمَاغِ هذه الضّخة الرّوحانيّة عروق متشعّبة بالعقل المفتّش عن ظالّته “الحكمة”، وما بين هذا وذاك (الرّوحانيّة والحكمة) تتحرّك الموجودات الاِنفعاليّة في شعري لِتُغَيّر من محدّداتها الاستقطابيّة طمعا في تحقيق التّكامل الارتقائي الإنسانيّ الجماليّ، فَخُذْ عنّي –إن شئت- هذا المفهوم الْوَصفِيّ الذّي استحدثته في الشّعر: “هُوَ الشّعر تلك الكُتلة المُوسيقيّةٌ الزَّمنيّةٌ المُهَرَّبَة عَبْرَ اللّا مَرئِي، تتَقاذَفُ مِن أيَادِي الانفِعَالات الشُّعُورِية الإنسَانِيّة الْمُتّصلة بِجِذْعِ الشّاعِر إلَى حَبْلِ التّشبّث الجَمَاليّ المُتدَلّي مِن أَسقُفِ الْهيكلِ النّفسانيّ لِكُلّ إنْسَانٍ حُقَّ لَهُ الإنْصاتُ تَحت وِصايَة اِلْتِقَاطٍ حَدسِيٍّ مَحض”.

ربّما أحاول في القصيدة نسج دوّامة لفظية تشير إلى المعنى ولا تخترقه، تأخذ بيدِ المتلقّي وتدفعه في مداراتها كي يطوف بِكَعبَتِهَا سَبْعَ مرّات، لا لشيء إنما كي يكون أوّل من يبُوح بالمعاني الأولى، فُيُجزَى بِهَا بعد صبرٍ وصبرٍ، هو نفسه الأسلوب الذّي أنتهجه في أحاديثي المتروكة للنّقد والتّعليم والصحافة وغيرهم من المحفّزات الفكريّة.

أعتقد أن المعنى يأتي في الرتبة الثالثة بعد اللّفظ والصّورة، بيانيّةً كانت أو شعريّة، بسيطة أو معقّدة، جاهزة أو مركبّة بِهَذَا التّرتيب.

س٣_ تختلف عباءة الشعر التي يرتديها كل شاعر عن إخوته الشعراء الآخرين.

ما شكل عباءتك الشعرية، وهل أنت مع الشعر العمودي أو الشعر الحديث؟

ج ٣_ أنا مع الشّعر كيفها كان وجهه الملائكيّ، لولا أن شِعر العمود أكثر جاهزيّة وأصالةً من ابنه الحُرّ في نظري، فالعمود “الخليليّ” يقدّم للشّاعر اشتهاءً موسيقيّا قبل أن يدخل لعبة الشّعر أصلا، إذْ لا يجهّز قوالبه المضبوطة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى جمهرَة موسيقيّة لعدد من أطياف القصائد السّابقة المنتَسِبة لِبحر مُحّدد، ويترك للشّاعر المُتَقّدّم له حُرّية الاختيار المُبَطَّنة في أُذُنه الموسيقية، فيتجاوز بذلك حرّية الحُرّ ذاته، أعتقد أنّني أشهد تَعَبًا بِنَائيّا مع الشّعر الحُرّ بينَما أستريح كثيرا بالنّظر إلى فُسيفساء العمُود المضْبوط.

ويجب الالتفات إلى أحقّية الشّكل الَعموديّ -خاصّة في صناعةِ المعنى وتوليد التّآويل- عِندَ المتلقّي، فـلا يَنْفَدُ الْخَزّانُ التَّأْوِيلِيُّ لِلْمُتَلَقِّي تَدرِيجِيًّا بِالْمُوَازَاة مَع التَّتَبُّعِ اللَّفْظِيِّ لِلبَيتِ الْوَاحِدِ إِلَّا لِيُعلِنَ عَن تَزَوُّدٍ تَأويلِيٍّ عَكْسِيٍّ أَكثَرَ تَسَارُعًا مِن تَسارُعِ النَّفَادِ نَفْسِه، فوْرَ وُصُولِ المتلَقّي إلَى آخرِ لفظٍ فِي الْبَيتِ(مَوضعُ الصَّحوَةِ التَّأوِيليَّة)؛ ولمّا كَانَ كَذَلِكَ صارَ لِزَامًا عَلَى ضَبْطِيَّة البَيتِ أَن تنفُثَ فِيه ذَروَةَ مُوسِيقَاهَا.

لو طالبوني بوصف مولاتنا العموديّة لقلت: خّلُّوا سبيلَهَا فَإنَّهَا مَأمُورَة.

س٤_ لقصيدة النثر وقع خاص في نفوس الشعراء والمتلقين، ما موقفك من هذا النوع من الشعر؟ وهل ترى أن بوصلة الشعر ستتجه باتجاه هذا النوع الشعري؟

ج ٤_ أعترف أنّي كتبت الشّعر نثرا -مُحِقًّا بِنَوعِه وَنوْعِيَّتِه- أكثر من مرّة من باب التّجريب والاكتشاف، بل سلّمت قصائد نثرية للنّشر في مجلات جزائرية وعربيّة، مثل قصيدتي الموسومة بــ: “عائدان من السّفر” التي نشرت مؤخرا في الركن الإبداعي لـ”جريدة الجمهوريّة الجزائريّة”، إلّا أني قد طرقت باب القصيد بعمودِه بادئ الأمر، ثمّ انحنيت لقصيدة النّثر فأغفلت تَعَالِيَ الشّكل مؤقتا.

ما لاحظته في تجربتي النّثريّة الشّعريّة هو الجَرُّ اللّا مقصود إلى الموسيقى الخارجية والدّاخلية التي اعتــدتهـــا أثناء الكتَابة الموسيقيّة المُنضَبِطَة، فوجدت أطراف نَثْريّاتي موزّعة بطريقة عشوائية على أبحر “الخَليل”، إذ أجدني أقذف بـبحرالمتقارب تارة والمتدارك تارة أخرى وهكذا…

أمّا عن تعميم هذه التّجربة الحداثيّة الدّخيلة على الذّهنيّة العربيّة كما هو معلُوم عِنْدَ جمهور الشّعراء والنّقاد، فأظنه قد بدأ في الاستفحال إذ أصبحت قصيدة النّثر تُحدّد روّادها وتشكّل أتباعها خاصّة من الأكادميّين وَالْبَاحِثِين، وهذا طَرَف ذو نيّة تجريبيّة، أمّا الجهة الشّائعة فهي من المُتَطَفّلين الذين يجدون في أنفسهم خصاصةَ شَوقٍ دَفِينٍ إلى اكتساب لقب الشّاعر فواتتهم هذه الفرصة الثّمينة المُغريَة ليعتلوا صهوةَ اللّقب الموعود، فيعثوا في المعنى فسادا والمبنى -داخله وخارجه- دمارا، إنني أخصص لــ”قصيدة النّثر” شروطا، أو لنقل: بنودا حتّى ننسبها لصاحبها الشّاعر، أهمّها: ما اصطلحت عليه بــ”تَحَقُّقِ الأسبقيّة”، فـلَعَمرِي إنَّ الذي يَزْعُمُ أنهُ مجدِّدٌ في الشِّعر العربي مفاخَرةً دُون أنْ يَمزُجَ دمَهُ بدمَاء السَّبَّاقِ والسَّابقِ أَو يُشهدَ لهُ بذلكَ، كَالبغيِّ مِن بعدِ مَريَمَ تضَعُ مولُودَها لَا يُعرَفُ أبُوهُ، تدَّعي أنَّها مريَمُ ومَا هي بمريَمَ وَما مولُودها كعِيسَى يُكلِّم النَّاس فِي الْمَهْدِ، يُفهم من هذا: لست ربًّا للنّقد أو الشّعر ولكنّني أغارُ على أنْثَايَ كَكُلِّ عربيّ أَصِيلٍ تَسَلَّح بالنّخوة فتسلّحت به.

س٥_ ما هي أهم قضية اجتماعية يركز عليها شعرك؟ ولماذا يكتب الشعر؟

ج ٥_ أرى الشّعر بالعينِ الّتي يَرَاني بها، شِعري رهينة عِنْدَ الإنْسَان حتّى أُفرِجَ عن حقِيقَتِه (الإنسان) بِصدق، فهو يُستَجمَعُ من ذُرى التّشييد الإنساني ويُنتَشَلُ من تَحتِ حُطَامِهِ، يُرافِقُهُ وَيُؤازِرُهُ وَيُهَذِّبُه، ما قال شِعرًا مَنْ أركَب دسائسَ اليَأس في قصيدِهِ أو تَأهّبَ لِذَلِكَ، نحن معشر البشر قد لا نلتقي تحت قُبّة واحدة بِحُكم الخُصُوصيّة العرقيّة والتّاريخيّة والاِخْتِلَافيَّة، ولكنّ لغة الفنّ تجمعُنا رغما عنّا، وحين يكون الشّعر ذلك الشّيخ الوقورُ الواقف على جذع نخلته خطيبًا، وَجَبَ على الآذان أن تُنصِتَ، وللأبصارِ أن تَشخَص، وللقلوب أن تخشَع، أعتقد أنَّ فاعليّة الخَطَابَة ملتَزِمة بالعمود العربي مُنذ اختراعه، لذا قد أحمِل على لساني روح القصيدة العموديّة لِتَوجيه الأسماع إليّ مواكبا بذلك إلقاءً سَلِسًا متتابِعًا، متَتَبِّعا حركيّة الإيقاع دُون تَمطِيطٍ لِحَرف أو وقف في غير موضِعِه، أفعل ذلك حين أدسّ غاية ثقيلة مفادُهَا الرّغبة المُلحّة في التّأثير، وَخُذْ بِذَلِكَ قَصِيدَتي: “على بابِ الْحُرّيّة” التّي سبق نشرها في مجلّاتٍ وجرائد عربيّة، إذ شكّلت هذه القصيدة من طبقات تأويليّة، ظاهِرُها التّغني بالجمال الظّاهر للمرأة من رأسها إلى جلد قدميها الأملس، وغائِرُهَا الحُرّية المُطلَقة في فضاء الجَمالِ النّازلة من عليَائها على الأرض فِي هيئةِ حسْنَاء، فَرَاعَيْتُ بِذلِك أسلوبًا توْرَوِيّا تَضْمِينِيًّا يُناسِب مطالب العصر المُعاصِر في نَبْذِ الْمُبَاشَرَة السّاذَجة، إذن، إنّني أحاول التوجّه في جهاتٍ كثيرة دُون أن أفصِح عَن مَوْصِلِيَ الْتَّنَبُّئِيِّ، كلّ قضايايَ في الشّعر تكادُ تَبتَعِد عن خاصيّة التّأريخ اللّحظيّ أو الانتشالِ الآنِيّ لمُشكِلات المجتمَع الرّاهِن، إنّها ضَبابيّةٌ في فِعلِهَا لا قَولِها، وتلك قُوّتها حسب رُؤيَتي، فالضَّبابُ هو في الحَقيقَةِ إسقاطٌ مَلْمُوس لِماهِيَة الأمَل، وهذا الأخير هو الّذي يتسلّح به الإنسان من مهده إلى لحده.

الشاعر الجزائري علاء الدين قسول

 

س٦_ هل ترى فيما يكتب من قصائد الشعر المعاصرة على الشبكة العنكبوتية إسهاما في نهضة الشعر العربي؟

ج ٦_ لا شَكّ أنَّ “الشّبكة العنكبوتيّة” قدّمت طبقًا جَاهِزًا إلى المتلقي باختلاف استعداداته التّأويلية للنّصوص الشّعرية، لكنّها امتصّت من الشّاعر صَبرَهُ، إذ تجد الشّاعر لا يكادُ يخلُو بقصيدته حتّى يسرِقَ منها بيتا أو بيتين لينشره فيَئِدُهَا، هو الأمرُ الّذي يقذفُ بالشّعر العربي نَحوَ خانة النُّتَف والقِطَع والمحدوديّة في جدوَل التّأريخ الشّعري، بعدما كان الشّاعر يُغالِبُ مَوجَ بَحرِه دون أن يَسطُوَ على دافعيّته شيءٌ غير الكتابة ذاتها، ولـلأنترنت بعمومها ووسائل التّواصل الاجتماعي خاصّة مزيّة التّعريف بالكتّاب والشّعراء النّاشئين كما تتيح لهذه الفئة إمكانيّة التّعلّق بالرّؤوس الأدبية وجهابذة النّقد بصورة مباشرة دون واسطة أو تعب، إنّها تشيّد الجسور المعلّقة بين الجبال، وتدلّ الماء على السّواقي ليجد لنفسه مسلكًا يُشاكِلُ مادّته التّكوينيّة الانطِلَاقيّة.

تبقّت لنا ثغرة واحدة وهي: التّقييم النّقدي لهذه البضاعة المعروضة، فمن يُقيّم مَن داخِل هذا الصّرح الغائب الحاضر؟ وإلى أيّ مدى تمثّلت الجودة الأدبية الحقيقيّة فيه؟ أظن أنّ أغلب المجلّات الإلكترونية تسعى جاهدة إلى ضبط شروط تخدم واجهتها الأدبيّة، فيما تأكل الأخرى الأخضر واليابس غير آبهةٍ بقدسيّة التَّوثِيق الأدبي في هذا العصر الذي تصاعدت فيه الأقلام كنَقْعِ الْمَعَارِك.

س٧_ من يعجبك من الشعراء القدامى والمعاصرين؟ وبم يتميز شعرهم؟ 

ج ٧_ الشّاعر المُعاصِر هو ذاك الولد اليتيمُ الذي يَأْنَس بأطياف آبائه، فلا يستقرّ له حال حتّى يستند إلى جذع الشّجرة هناك أعلى التّلة، مُحاطا بتلك الأرواح التّي تحوم حوله كل ظهيرة كي تُغَذّيه بِالرّؤى، إنه يُردّد أسماءهم وأشعارهم ومآثرهم كُلّمَا شقَّ الْحَنِينُ صَدرَه.

أراني كهذا الولد مُرتدِيًا عَبَاءَتِي المُرقّعَة بالخيط السّميك، حاملا عَصَايَ، مُنتَعِلًا خُفِّيَ الْمُقَصَّبِ، مُردِّدًا ما استقرَّ في ذَاكِرَتي من فيض آبائي الشّعراء من الصّور والمعاني، إنّني عالق في “النّوستالجيا” كَرِيشةِ طائر غُرِسَتْ في الأخدود الدّائري المَحفُورِ بِأطرَافِ الأصَابع أعلَى قُبّة العمَامة الْعَرَبيّة، ولو سألتَنِي عن أسماءِ هذه الأطياف الأبويَّة المُحيطَة بي، لقلت لك: في كُلِّ زَمَنٍ لي شَيخٌ أكونُ الْمُرِيدَ عِندَه، فَهاهو ذا “امرؤُ القيس” يحمِل لغتَهُ التّصويريّة، يمُرُّ بي باكِيًا على أطلالِهِ، وذاكَ “عنترة بن شدّاد” يصقل لِسانه مُتحسّبًا لأعداء “الْعَبسيّين” مُتلَهّفًا لِدَعج في عيون “عبلةَ” يطلع فِي ناحية بيتِ عَمِّهِ لِيُخَيِّمَ ظَلَامٌ، كَأنّه خَيْطُ الشّمس يَسْوَدُّ في مرمى نَظْرَتِها، وها هو “زُهَير” الْحكِيمُ يعقد صُلحَه بين الْقبائل المُتناحِرَة، وانتظر “حسّان” و”كعب” و”ابن رواحة” يأتُونك بالتّاريخ الإسلاميّ منحوتا عَلَى حَجَرٍ شِعرًا، وإن شئت فاقفِزْ إلى ضفّة النّهر المُجاورة، تلقى “البُحتريّ” يَجُرُّ الْقَمَرَ لِيُسقِطَهُ في بِركَة مِن البِركِ السّاكنة في قلب القصور الْبغدَاديّة العبّاسيّة، وذاك شَيخُنَا “أبو الطّيب” واقفٌ على بِساطِه وهو مَحمُولٌ على سحابة يُلقي من فوقها حِبَالًا كأنّها أبياتٌ من الشّعرِ، وهَذا شيخنا “ابن الفارض” يَشقُّ عباب البحر الرّوحانيّ من غير مِجذاف، فالرّوح لم تَزل تدفع زوْرَقَه النُّورَانِيَّ حيث أرادَ، إنّه يُملِي على البَحرِ أسرارهُ الّتي خبّأها في ظُلُمَاتِه، أمّا “شوقي” و”الْبارودِي” فَجالِسانِ عِندَ هؤلاءِ السّابِقِين يَغرِفُون من بِحَارِهِم، لكنّ “دروِيش” و”مُفدي زكريّا” و”أمل دنقل” أبَوْا إلا أن يُعيدُوا للوطَنِ وَجهَهُ الْمَسْلُوبَ مِنه، وإذا بـ” نزار” يَقطِفُ زهرة من حَديقَةِ “الشّام” فَيُحوّلُها إلى امرأة كَامِلَةِ الأَوصَاف…

إنّني أمرّ عبر العصور الأدبيّة حافي القدمين خاليَ الكّفّين مَشْدُودًا إلى تِلكَ الصّور المُشكّلَةِ بِالكَلَام كَالخَاطِبِ المُتَوَاضعِ، لا يَسَعُني إلَّا أن أقول لأهاليها: رُبّما أكون حافيا أو خاليَ اليدين -كما ترون- ولكنّني ما زِلتُ حيًّا مملوء الرّئتين، ما زِلْتُ إنسَانًا يتنفّس وَيَرَى.. لِيَشْعُر.

س٨_ هل ترى في الحركة الشعرية النسائية المعاصرة إسه‍اما جادّا في تطور القصيد؟ 

ج ٨_ البعث النّسوي الشّعريّ أكثره مُكبَّلٌ بـ”الأيديولوجيا” بِكُلِّ بَسَاطة، ما قد يُوقِفُهُ أمام مُساءلات كثيرة، أوّلها: التّحزّب الشّعري اللّا مُبرّر، فما محلّ هذه الحركة الشّعريّة من التّأصيل الأدَبِي العربي، وَما أهدافُها؟ هل هي ردّة فعل غير مخطّط لها وصلتنا عبر صدى موجاتها التّاريخيّة، أم أنّها تَحقيق أعمى للموضوعات التّنظيريّة الفلسفيّة الغربيّة؟

صراحة أُحِبُّ أن يكونَ الشّعر حركَةً جامِعة للإنسان بجِنسيه في تيّار الحَياة دُون وَضع الْفاصِلة، أظنّ أن الشّعر النَّسَوِيِّ حمل على عاتقه أثقالا ومشى باتّجاهٍ يَخذُمُ التِّيه أكثر من المَوْصِل ذاتِه “الشّعر”.

على المرأة العربيّة الشاعرة أن تُربّي الشّعر كولد لها أنجبته من بطنها لِيَكُون لَهُ حَقُّ الأبوّة من أبيه الرّجل كذلك، حتّى تتشكّل هذه الصّورة النَّسوية بكامل إطاراتها الحافِظَة لَهَا، فتكون بذلك محلّ سَكَنٍ للرّوح الشّعري السّامي.

س٩_ هل تتوقع أن ينقرض الشعر مستقبلا وتحل الرواية الأدبية الطويلة مكانه؟ 

ج ٩_ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لا تَدعُ العربُ الشّعر حتّى تدَعَ الإبِلُ الْحَنين”، رغم “الواقعية” التّي استفحلت في الأوساط الفنّية الأدبية باختلاف أجناسها، والخادِمة لجنس الرّواية أكثر إلا أنها لن تتعدّى على ملكوت الشّعر، وإن تراجعت مقروئيّتُه مقارنةً بالعصور السّابقة.

قَد أُرْجع انتشار الرّواية إلى جملة من الأسباب استنادا إلى ما أورده “النّقد الاجتماعي” في مختبراته الإحصائية المُوازِنَة، أهمّها:

  • الرّواية العربيّة حديثة النّشأة كما تعلم، والحُلّة الجَديدة يكثر عليها الطّلب لإشباع الفُضول والتّجريب.
  • تطوّر السّرديّات العربيّة حَقَنَ الجنس الرّوائي بالانتشاريّة في استشهاداته.
  • تبقى الرّواية فنّا لمن لا فنّ له، فالسّاعي إلى إتقانها لا شكّ مسكونٌ باقتفاءِ آثارها لا سيما الشّباب.

فيما ترى الشّريحة الشّبابية اليوم إلى الشّعر (العمود خاصّة) فيُخيَّلُ لها أنّه ذلك الشّيخ النّمطي الّذي غيّبته “المُودا” العصريّة، ولكنّها نظرة سطحيّة مادّية تفتقر إلى الحجّة والاستقراء العلمي.

إنَّ الخَطابة المتزوّدة بالعمود الشّعري ما زالت تَقلِب موازين الأسماع مُباغِتَةً الحُكم العشوائيّ لهذه الفئة، والحمد لله أني مازلت شابًّا شاهِدًا على زَعامَةِ الشّعر واستيلائه على الكينونة الذّوقية الصّالِحة.

س١٠_ حبذا لو ترسل لنا مع هذا الحوار أجمل قصيدة من تأليفك هي أحب الأشعار إليك.

ج ١٠_ كُلّ قصائدي مُؤنسات غاليات، أكره التّخيير بينهُنَّ ولكن بعض الحبّ قد يدنو من التّخيير، أختار لكم باقَةً شِعرِيّةً حسبَ النّوع الشّعري:

  • في الْعَمُود:

السَّاقِي

مَا زِلْتُ أبْحَثُ فِي الْأَسْوَاقِ عَن سَاقٍ

مَلَأْتُ قِرْبَتَهُ مِنْ نَبْعِ أَحْدَاقِي

 

يَوْمَانِ.. مَا مَرَّا إِلَّا وَخِلْتُهُمَا

عَامًا يَمُرُّ وَعَامًا بَعْدَهُ بَاقِي

 

لَوْ خُيِّرَ الْعَاشِقُ الْمِسْكِينُ بَيْنَهُمَا

لَاِخْتَارَ يَوْمَ اِلْتِفَافِ السَّاقِ بِالسَّاقِ!

 

قَالُوا: عَشِقْتِ.. وَهَلْ فِي السُّوقِ عَاشِقَةٌ

مِثْلِي لَهَا قَدَمٌ طَافَتْ بِأَسْوَاقِ؟ !

 

فِي كُلِّ سَاقِيَةٍ كُنَّا نُوَاعِدُهَا

لِي قِرْبَةٌ مُلِئَتْ أَسْرَارَ عُشَّاقِ

 

اَلْمَاءُ يَجْرِي دَوْماً دُونَمَا سَبَبٍ

وَالرِّيحُ -لَو تَأْتِي- تَهْفُو بِأَورَاقِ

 

 

رُوحَانِ فِي جَسَدِي.. وَالشَّوْقُ صَيَّرَنِي

شَوقَيْنِ مَا خَطَرَا فِي بَالِ مُشْتَاقِ

 

شَوْقَانِ مَا اِخْتَصَمَا إِلَّا لِيَتَّفِقَا

مَا خَيَّرَا بَيْنَ إِحْرَاقٍ وَإِغْرَاقِ!

 

  • في الشّعر الحُرّ:

 

طَوْقُ نُحَاسٍ لِأُمِّي

 

(1)

وَيَحْدُثُ أَنِّي عَبَرتُ حُدُودَ الْحَيَاةْ..

كَفاقِد حُلْمْ..

يُنَقِّبُ فِي الْغُصْنِ عَنْ أُمْنِيَاتِ الطُّيُورْ..

كَمَاسِكِ رِيشَةْ..

يُحَارِبُ أَحْزَانَهُ بِالْأَصَابِعْ

كَشَاعِرِ وُدّْ..

رَهِيفِ الشُّعُورِ.. أَسِيرِ الْمَدَامِعْ

كَبَائِعِ وَرْدْ..

يَنَامُ شِتَاءً عَلَى عَرَبَاتِ الزَّنَابِقْ..

وَيَفْرُشُ أَزْهَارَهُ مِثْلَ أورَاقِ فَصْلِ الْخَرِيفْ

كَزَوْجٍ عَقِيمْ..

يُفَكِّرُ فِي الزَّوجَةِ الرَّابِعَةْ!

كمُدْمِنِ خَمْرْ..

كَعَاشِقِ بِنتٍ تَزَوَّجَتِ الْبَارِحَةْ..

يُغَنِّي الْمَوَاوِيلَ سَكْرَانَ فَجْرًا..

وَيَرْقُصُ.. يَرْقُصُ مِثْلَ الْمَجانِينِ فَوْقَ الرَّصِيفْ

(2)

وَيَحْدُثُ أَنِّي عَبَرْتُ حُدُودَ الْحَيَاةْ..

كَحَارِسِ حَارَةْ..

يُنِيرُ فَوَانِيسَهُ.. ويُطَالِعُ دَفْتَرَ دَيْنِهْ

كَلَاعِبِ نِرْدٍ مُقَامِرْ..

يُطِيعُ الْخَسَارَةَ حَتَّى النُّخَاعْ

كَفَاقِدِ أُمّْ..

يَمُوتُ اِشْتِيَاقًا.. يَمُوتُ اِلْتِيَاعْ!

 

(3)

لَأَبْقَى أَخِيرًا..

كَطِفْلٍ فَقِيرٍ..

أَلَمِّعُ أَحْذِيَةَ النّاسِ بِالدَّمْعِ كُلَّ صَبَاحْ..

لِأُهْدِيَ طَوْقَ نُحَاسٍ لِأُمِّي

 

  • في النّثريّة:

حَبِيبَتِي وَالْقَمَرْ

 

(1)

“لَمَّا اِكتَشَفْتُ -يَا حَبِيبَتِي- الْقَمَرْ..

غَسَّلْتُهُ..

مَشَّطْتُ شَعْرَهُ الطَّوِيلْ..

أَلْبَسْتُهُ ثَوْبِي الْقَدِيمْ..

لَثَّمْتُهُ.. خَبَّأْتُهُ فِي مِعطَفِي..

وَقُلْتُ: يَا قَمَرْ.. سَنَعبُرُ الْحُدُودْ”

(2)

أَيَّتُهَا الْغَائِبَةُ الْحَاضِرَةْ..

أَكَادُ أُنْهِي قَصِيدَتِي الّتِي لَنْ تَنْتَهِي أَبَدًا.. مَا دُمْتِ مَعِي..

غِيبِي قَلِيلًا!

أَنَا لَا أكتُبُ تَحتَ الشّمس!

أتَصَبَّبُ عَرَقًا.. وَعِندِي عُقدَةُ النّظَرِ..

(3)

مَا هُنَالكَ شَاعِرٌ فِي الدُّنْيَا بِأَكمَلِهَا..

يُفَضِّلُ الْجُلُوسَ أَمَامَ حَبِيبَتِهِ عَلَى غِيَابِهَا..

فَهْوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشِّعرَ مُسْتَقِيلٌ مِنْ آفَةِ الْحُضُور..

بَلْ مَا هُنَالِكَ شَاعِرٌ يَنْأَى عَنِ اِمْرَأَتِهْ..

إلَّا وَهْوَ فِي أُهْبَةِ اِنْتِظَارٍ أَوْ فِرَارْ..

(4)

أَيُعقَلُ أَنْ أقفَ أَمَامَكِ..

أَمَامَ موكِبِ النِّساء..

أَلتَقِطُ جَمِيعَ وُجُوهِ الْعَذَارَى بِنَظْرَةٍ يَتِيمَةٍ وَحِيدَةٍ..

لَا حَوْلَ لَها وَلَا قُوَّةْ؟

فَلَوْ خُيِّرتُ بينَ نَظْرَةٍ فِي وَجْهِكِ.. وَعَبرَةٍ عَلَى خَدِّي..

لَاخْتَرتُ الشِّعرَ وَحْدَهُ وَاِكتَفَيْنَا بِالْخُلُودْ..

(5)

الشِّعرُ -يَا حَبِيبَتِي- حِكَايَةٌ تُحكَى لَنَا..

وَنَحنُ فِي غَايَةِ الْحَنِينِ لِكُلِّ رِيشٍ نَابِتٍ بَينَ الْعُيُونِ وَالثُّغُورْ..

لِكُلِّ فَتْقٍ كَامِنٍ فِي حَائِطِ الْعُصُورْ..

فَهْوَ -فِي الْغَالِبِ- يَمشِي إلينَا مُرغَمًا بِظِلِّهِ..

يَقْسُو عَلَيْنَا تَارةً بِحَظِّهِ..

لَكنّهُ لَم يَزَلْ مُبَرّأً مِن تُهمَةِ الْظُّهُورْ

Visited 1 times, 1 visit(s) today
اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق