نبيـل عمــر
لا أتصور أن أزمة د.محمود مرسى أستاذ الكيمياء يمكن أن تقف عند حدود تعليقات غاضبة ضربت رقما قياسيا على صفحة كلية علوم الإسكندرية، وإلا نصبح كمن يدفن رأسه فى الرمال ولا يريد أن يرى صورة شاملة تتخطى حادثا فى جامعة إلى عموم المجتمع.
وقد تكون هذه أول مرة فى تاريخ الجامعات المصرية أن تقابل ترقية أستاذ بكل هذا الغضب، 182 ألف تعليق غاضب فى أقل من 12 ساعة، رقم قياسى لم يكتسبه العدوان الإسرائيلى الهمجى على أهل غزة، المدهش أن عدد طلاب كلية العلوم بالإسكندرية فى كل سنواتها الدراسية الأربع لا يصل إلى 11 ألف طالب، بل إن عدد طلاب جامعة الإسكندرية، دون طلاب الدراسات العليا، بكل كلياتها الأربع والعشرين بالكاد يتجاوز رقم 182 الفا.
إذن من أين جاء كل هذا الغضب؟
حكاية غريبة حقا ونادرة، وربما غير مسبوقة فى أى جامعة فى العالم، بدأتها برقية تهنئة عادية، من عميد الكلية وهيئة التدريس إلى د. محمود مرسى المدرس المساعد لترقيته إلى مدرس، منشورة بصورته على صفحة الكلية بالفيسبوك، وقطعا فعلتها الكلية مع عشرات الأساتذة من قبل، لكن هذه المرة صادفت حملة شعواء أو طوفانا من علامات «الكراهية والوجوه العابسة والتعليقات الغاضبة»، منها: عمر ما كان العلم دافعا للتكبر، أو: لماذا تستعلى على الناس؟ أو: عمرى ما أنسى رفضك أن أدخل «السكشن»، مع أنى قلت لك كنت فى المستشفى من أجل دواء ماما،وأحرجتنى أمام الجميع. إذن هم يتحدثون عن أستاذ مفرط فى الصرامة، وهو تفسير روتينى فى المجتمعات المعتادة على قدر من التسيب،أوربما هو بالفعل يتصرف بنوع من التعالي.. لكن كيف وصل الرقم إلى 182 الفا؟ هنا نأتى إلى الغوغائية الجديدة، غوغائية شبكات التواصل الاجتماعي، أخطر ما يهدد الوعى العام للمجتمع، خاصة بعد ما تمتعت هذه الشبكات بتأثير مباشر على مراكز صناعة القرار فى كل جوانب الحياة، من إيقاف لاعب كرة إلى التحريض على الحرب، وشيء جميل حقا أن يكون الجمهور عنصرا فى صناعة القرار، لكن المعضلة أن أغلب الآراء والتعليقات والأفكار وردود الأفعال المطروحة على تلك الصفحات هى مجرد انطباعات وانفعالات فائرة لا تستند إلى معلومات صحيحة أو معارف حقيقية، فباتت تنفيثا هائلا يتحول بالتدريج إلى كتل صماء ضاغطة مسرعة فى اتجاه، حتى لو كان إلى الهاوية. مثلا كتب واحد من هؤلاء تعليقا على صفحة كلية العلوم: كنت أمر بالمصادفة،قلت فرصة أعمل الواجب، وآخر: لا أعرف الأستاذ، لكنها فكرة حلوة، وكتبت فتاة فلسطينية: أنا متضامنة مع الشعب المصرى ضد الأستاذ مثلما تضامنوا معنا ضد الاحتلال الإسرائيلي، ورابعة قالت: حسبى الله ونعم الوكيل أنا أردنية من كلية الآداب وتخرجت من 18 سنة، وفعلتها من أجل وقفة الشعب المصرى مع غزة.
بالطبع فزعت الكلية وأوقفت التعليق على الصفحة، وأسرعت مواقع إخبارية إلى فتح ملف العلاقة بين الأستاذ الجامعى وطلابه، وراحت تثرثرعن القيم الجامعية وتجنب اتباع مبدأ الهوى..الخ، فعلت ذلك دون أن تكلف نفسها بالذهاب بالتفتيش عن الأسباب الحقيقية، وتبلغ بها الرأى العام، فيبنى حكمه على معلومات دقيقة. واهتز الأستاذ، فهو يتعرض لعاصفة ضارية من التشهير، فرد على صفحته: لو أدع الطلاب تروح بدرى وأتغاضى عن تقارير المعمل، وأى واحد يتأخر أدخله، وأرفع درجات الكسالى..الخ، كنت أخذت مليون علامة إعجاب ومحبة.
إذن هذا جوهر أزمة أستاذ الكيمياء وحرب التعليقات الغاضبة، ويالها من فرصة أن نفتح ملفا مسكوتا عنه، ليس ملف علاقة الأستاذ والطلاب فى الجامعة، فهو ملف بسيط وتابع للقضية الأصلية، وهى نظام التعليم الجامعي.
من المؤكد أن طلابنا يكرهون أى أستاذ يتعامل معهم بجدية وصرامة، ويتصورون أن تفوقهم الزائف فى الثانوية العامة بمجاميع تتجاوز الـ90 % يعبرعن مستواهم العلمي، بينما هو خدعة خبيثة زرعها أصحاب الامتحانات فى مستوى الطالب المتوسط، ولا مثيل لها فى أى نظام تعليم على كوكب الأرض، وحين يصادف هؤلاء « المتفوقون صرامة وتقديرات علمية دقيقة لمستواهم من أساتذة جادين، تقع مثل هذه المشكلات، ناهيك أن أعدادا غير قليلة من هؤلاء الطلاب قادمة من مدارس حكومية، وهم أسرى عادات اكتسبوها وتطبعوا بها فى التعليم الأساسى والثانوي، خاصة المنحدرين من عائلات يهمها أن يحصل أبناؤهم على الشهادة بأى طريقة ولا تعنيها المعرفة، وأى تحليل علمى للبطالة بين الحاصلين على شهادات جامعية، لمعرفة أسباب فشلهم فى العثور على فرص عمل جيدة فى المهن التى يفترض أنهم تأهلوا لها، سنكتشف بسهولة أن ضعف إمكاناتهم العلمية ومهاراتهم الفردية من أهم الأسباب، وكم من روايات مخجلة عن نتائج اختبارات التعيين لخريجى الجامعات فى مؤسسات وشركات قطاع خاص، وأصحاب الأعمال موجودون ويمكن عمل جلسة استماع لهم فى مجلس النواب. وأيضا لا يمكن أن نغفل أعدادا لا بأس بها من الطلاب فى غاية الجدية والقدرة على تحصيل المعرفة وتجديدها سعيا إلى بناء مستقبل لامع، خاصة فى الكليات العملية كالطب والهندسة والصيدلة والحاسبات والمعلومات. المدهش أن عدد طلاب الجامعات الحكومية والأزهر يتجاوز مليونين ونصف المليون بقليل، منهم 78 % تقريبا فى 288 كلية نظرية، مقابل 22 % فى 241 كلية عملية، نعم ..هذه حقائق مرة، فى عصر يستحيل أن نتقدم دون عقل علمى منظم سائد فى المجتمع ومنتشر فى كل المهن والتخصصات، ودون معارف وتجارب علمية تضع حلولا عملية تنتشلنا من وهدة التخلف التى سقطنا فيها من قرون. باختصار يمكن أن تكون أزمة الأستاذ والتعليقات هى نقطة الانطلاق إلى نظام جامعى مختلف تماما، نظام على غرار نظم التعليم فى الدول المتقدمة، ويمكن ببساطة أن ننقل نظاما من العالم ونطبقه علميا، سوف يسأل المتشائمون دوما السؤال المعجز: ومن أين تكاليف هذا النظام فى بلد ميزانيته العامة محدودة؟، هنا يمكن أن نفتح حوارا مجتمعيا عن كيفية تمويل هذا النظام الكفء.
والتعليم بكل درجاته هو «الجسر» الأهم للخروج من النفق.
اقرأ أيضا:جريمة وليس مجرد أكذوبة