جريمة وليس مجرد أكذوبة

1 728

نبيـل عمــر

قد يتوقف المرء مندهشا حائرا: كيف يمكن أن يتفق رأي كاتب حر مع داعية سلفي في مسألة تبرير الدعوة للتدخل الأجنبي في الأوطان؟

في مقال منشور قبل أيام في جريدة الشرق الأوسط، انتقد الكاتب اللبناني اللامع حازم صاغية الذين يرفضون الدعوة للتدخل الأجنبي في بلادهم، ووصف أفكارهم بأنها خرافات وبلهاء. أما الدعاة السلفيون فقد أفتوا بإباحة الاستعانة بالأجنبي الكافر لرد الظلم والأذى والضرر الواقع في بلادهم، وقالوا: لا يجوز التأخر في ذلك، ولو بالاستعانة بطائفة من المشركين.. وإن وضع هؤلاء الدعاة شروطا مضحكة، منها ألا يقتل هؤلاء الأجانب الأبرياء ولا المدنيين، وأن يستقيموا على أوامر الحاكم المسلم ونواهيه، وألا يتدخلوا في شئون العباد وأن يحسنوا الرأي بالمسلمين. الفارق بين الكاتب حازم صاغية وهؤلاء الدعاة، أن صاغية لم يلجأ إلى نصوص دينية، كما فعل الدعاة الذين أوردوا تفسيرات وأحاديث تحرض على هذه الاستعانة بالقوات الأجنبية، لكنه لجأ إلى توصيف الواقع وضرب مثالين بالعراق والتدخل الأمريكي الكامل فيه، وليبيا والتدخل الجزئي لقوات حلف الناتو، ولم يوجد سبيل آخر للتخلص من صدام حسين الذي حكم 35 سنة، ومعمر القذافي الذي حكم 42 سنة، بعد أن عجزت المعارضة عن الإطاحة بهما بالرغم من العذابات الهائلة التي عاناها الشعبان.

يبدو من الوهلة الأولى أن الكلام له وجاهة، على طريقة ضرب الظالمين بالظالمين، أو أن الظلم الأجنبي قد يكون أكثر رأفة ورحمة وإنسانية من الظلم الوطني، وأن هؤلاء المواطنين الذين تعرضوا للقهر والغبن والاضطهاد والتعذيب لم يجدوا أمامهم سوى الأجانب حتى لو كان فيهم بعض الشر، ليتخلصوا من تلك المعاناة الأبدية.. ويمضي في تبريره، بأن الأجانب قد لا ينشرون النعيم المنتظر، لكن في كل الأحوال هم أفضل من التمسك بالجحيم المقيم.

هذا رأي خطير للغاية، يفتح الأبواب على مصاريعها للتدخل الأجنبي، بل ينسف جدران الوطن ويزيل أسقفه لكل طامع، فلم يعرف التاريخ قوات أجنبية استعانت بها فصائل وجماعات للتدخل في بلدها وصنعت نعيما أو نصف نعيم أو جحيما أقل مما تصورت أنها تعيشه من قبل. فأي أجنبي لا يأتي إلى بلد من البلدان سياحة أو ترفيها، إنما هي قوات ومعدات وأسلحة وشئون إدارية تتكلف مليارات الدولارات، ناهيك عن الدماء التي يمكن أن تسال..فيا ترى من هم الأجانب الذين يستنزفون ثروات بلادهم من أجل حفنة مواطنين يستنجدون بهم للإطاحة بنظام يعارضونه ويرونه جحيما مقيما؟ هل الحداية بترمي كتاكيت؟ والاستعانة في الغالب ستكون من دول الغرب، يعني الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بالدرجة الأولى.. والسؤال: ما هو تاريخ هذه الدول في الدفاع عن العدالة والحق ضد الظلم والقهر والأذى؟ وإذا قلبنا السؤال: ما هي الدول التي استعمرت شعوب الأرض واستعبدتها في الـ300 سنة الأخيرة؟، وماذا فعلت في هذه الشعوب وكيف حولت جحيمها إلى نعيم او حتى إلى نصف جحيم؟ ماهو تاريخ الولايات المتحدة مع دول العالم، وهي إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس حاليا، وتمتد قواعدها من أقصي الشرق إلى أمريكا اللاتينية؟، ما هي الأوطان التي حررتها من ظلمها الداخلي وأسست فيها دولا ديمقراطية حرة عظيمة الشأن؟

ما ارتكبته الولايات المتحدة من جرائم حرب ينزع عنها أي قيم أخلاقية سواء في نشأتها بالتطهير العرقي للقارة الأمريكية من سكانها الأصليين أو بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين دون ضرورة عسكرية وأصلا لا توجد ضرورة عسكرية لاستخدام السلاح الذري ضد الإنسانية أو بالوحشية التي تعاملت بها في فيتنام.. وماذا فعلت بريطانيا العظمى في الهند وقد احتلتها ما يقرب من مائة عام؟، تركتها في غاية الفقر، وكان يموت فيها عشرات الآلاف من أبنائها جوعا كل عام؟ وكم مذبحة ارتكبها الفرنسيون في الجزائر وسوريا وغيرهما من الدول التي احتلوها في الأمريكتين؟ ألم يصنع الغرب حضارته الحديثة وتقدمه بنهب ثروات شعوب الأرض شرقا وغربا؟، هذا لا يعني أن ننكر براعة العقل الغربي الفكري والعلمي الهائلة، وجهد رجاله وعماله في البناء والتعمير والتصنيع، لكن ثروات الشعوب التي كانت تتدفق من آسيا وإفريقيا والأمريكتين سهلت كثيرا من الطفرة الاقتصادية وقصرت المدة الزمنية التي انتقلت فيها أوروبا الاستعمارية من حال إلى حال أكثر تقدما. وإذا عدنا إلى التاريخ القديم، ودون أن نرحل طويلا نكتفي بلحظة سقوط الدولة العباسية أمام التتار، وكيف لعب الداخل دورا في إنهاء هذه الدولة، وماذا فعل التتار بهؤلاء الذين سهلوا لهم دخول بغداد؟

يروي ابن كثير في كتابه الشهير البداية والنهاية عن تحالفات بين أمراء مسلمين وهولاكو، وهم أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، وأمير حلب ودمشق الناصر يوسف وهو حفيد صلاح الدين الأيوبي وأمير حمص الأشرف الأيوبي، ثم يفرد مساحة واسعة لـمؤيد الدين العلقمي كبير وزراء الخليفة المستعصم بالله، الذي لم ينس ثاراته الشيعية، وفتح طريق الجيوش التتارية إلى بغداد، بقدر من الآراء والاقتراحات التي تصب في مصلحة التتار، فأقنع الخليفة بتخفيض ميزانية الجيش، وأن يقلل أعداد الجند، ثم قاده إلى كمين تفاوضي مع هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد، جمع فيه سبعمائة من أكابر المدينة: وزراء وأعيان وفقهاء وعلماء، فقتلهم هولاكو جميعا وأبقى على الخليفة و17 من أعوانه فقط، لينكل بهم أمام العامة، وعين مؤيد الدين العلقمي رئيسا على مجلس الحكم، مجرد صورة يهينها جنوده، فمات كمدا بعد شهور. وهو نفس ما حدث في بغداد بعد الاحتلال الأمريكي لمن استعانوا به لتحريرهم من صدام حسين، والسؤال: هل العراق كدولة وأمة أفضل حالا من أيام الدكتاتور صدام حسين؟ هل حياة الليبيين ومعيشتهم أحسن من أيام معمر القذافي؟ هل الأوضاع في سوريا في وجود قوات أجنبية من بضع دول أجنبية تبشر بأي خير أو بسوء أقل مما كانت عليه قبل التدخل الأجنبي؟ قطعا نحن ضد الاستبداد ولا نطالب بتحمله، لكن الحديث عن قيم أخلاقية تحرك التدخل الأجنبي في بلاد تستدعيه معارضة عاجزة ليس مجرد خرافات أو أفكار بلهاء..بل جريمة وطنية بكل المقاييس.

اقرأ أيضا للكاتب
المسلمون وأوهام الخطر

 

Visited 1 times, 1 visit(s) today
تعليق 1
  1. […] والتعليم بكل درجاته هو «الجسر» الأهم للخروج من النفق. اقرأ أيضا:جريمة وليس مجرد أكذوبة  […]

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق