بقلم أ.د/ جودة مبروك محمد
كثرت عبارة تجديد الخطاب الديني، والنقاش حولها، ولكنه ظلَّ في ثوبه القديم، إلا أنني أفهم منه أنه مخاطبة العقل المعاصر بما يليق به مع الأخذ في الاعتبار ما وصل إليه من تطور للبشرية ووصول الإنسان إلى المريخ، وهو إعادة فهم النص حسب السياق الذي يعيشه الإنسان أو تبعًا لظروف عصره، بحيث يكون له عونًا على حل مشاكله مع الحياة، مع الحفاظ على الثوابت.
يرى بعض المفكرين أن مشكلة التجديد تكمن في أمرين: الأول: صفات العقلية التي بمقدورها أن تقوم بالتجديد، والثاني: الممكن تجديده من الخطاب الدين، أما الأول فهو العقلية التي تجدد، ولها خصائص، فلا بد أنها قطعت شوطًا في الإلمام بالعصر وعلومه، وخرجت من عباءة تقديس الماضي كل الماضي، وأن تعترف بأن ما أنتج بالأمس ليس ضروريًّا أن يكون صالحًا لليوم، وليس باللازم اتباعه بأكمله، وعلى هذا لا يستطيع كل من اعتلى منبر الدعوة أو العلم الديني بقادرٍ على ذلك، فذلك يحتاج إلى تنشئة خاصةٍ، نراها في بعض الأئمة قديمًا وحديثًا، وقد ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأمة عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا، وله شروط أهمها النبوغ والعلم، وأن يعمَّ علمه وأن ينفع به أهل عصره وقد أثر فيهم، وقد ألف السيوطي في أوصافهم شعرًا.
وقد حدّد المؤرخون في كل قرن من الزمان علماء مجددين ، منهم عمر بن عبد العزيز، وسيدنا أبو بكر الصديق، والشافعي وأحمد بن حنبل والنسائي والبخاري وأبو حامد الغزالي وصلاح الدين الأيوبي وحسن العطار ورفاعة الطهطاوي ومحمد إقبال والشيخ شلتوت والمراغي ومصطفى عبد الرازق والعقاد والشعراوي، وهناك قائمة كبيرة، وهي في النهاية رأي وليس جزمًا بأن هؤلاء مجدودن أم لا، وهل ما صنعه هؤلاء هو التجديد الذي نعنيه ونريده أم أنه شيء آخر.
والثاني: العنصر الذي يقبل التجديد من الدين، فهناك أمور ثابتة، فهي قديمة جديدة، تناسب كل عصر وكل مِصْرٍ، وأكثرها يتصل بنصوص الوحي.
وبعيدًا عن الكلام النظريِّ فقد دار نقاشٌ بيني وبين أحد السادة علماء الأزهر، كان عبارة عن استفسارات مني، ليس أكثر، فأنا لا أدَّعي الفقه فأملك الفتوى، أو التخصص في علوم الشريعة فأستنبط الأحكام، وإيماني بأن العقل وحده ليس كافيًا إلى الوصول إلى الدين بما يحمله من غيبيات، وكان مدار الحديث عن أداء العبادات في زمن الكورونا، فالمساجد أُغْلِقَتْ مدةً من الزمان ، وما زالت أوامر الحكومة باتخاذ الإجراءات الاحترازية في دور العبادة خاصةً، فهل يمكن أن تُؤدَّى الصلاة عن بُعْدٍ، أي: أُون لايِنْ (on line)، فكان جوابه أن هذا لا يجوز، وأن شروط صلاة الجماعة الحضور إلى مكان الصلاة حيث المسجد، وما عدا ذلك لم يرد لا في كتاب ولا سنة.
وأنا من الذين يحترمون بشدةٍ رأي علماء الدين لأسباب كثيرة، لعل أهمها أنهم يمتلكون من العلم والمعرفة ما يؤهلهم للفتوى ، والثاني أنهم يتحملون المسؤولية والتصدي للرأي، سواء كان له امتداد من النصوص، أو مبني على اجتهاد، ولا شكَّ أنهم يمتلكون ذلك الاجتهاد. لكني أرى أنه من باب الاجتهاد أن يناقش كبار العلماء مثل هذه المسائل، وأن يعيدوها إلى ساحة الحوار العلمي، فماذا نصنع في عباداتنا إذا ما أُغْلِقَتِ المساجد، أو بعضُها أو أُغْلِقَتْ جزئيًّا، حرصًا على أمن المجتمع من انتشار الوباء وانتقال المرض اللَّعين، ومن المصلِّين كبار السنِّ، أَمَا يمكِنُ أن تُؤَدَّى الصلاةُ عن بعد في إطار الجماعة، ونحن نعلم أنه في القديم لم توجد التقنيات التي بإمكانها أن تصل الإنسان وهو في بيته أو عمله إلى أماكن بعيدة عنه.
لقد رأينا كمًّا من الرُّخضِ التي يحبُّ الله أن تُؤْتَى في العبادة خاصةً الصلاة، بدءًا من الوضوء والتيمُّم، واستقبال القبلة، والصلاة على الأرض، والمسح على الخفين ، والكيفية في أدائها، سواء كان وقوفًا أم قعودًا، كل هذا وغيره رخصٌ في الماضي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار عليها الصحابة رضوان الله عليهم، أمَا يمكن أن تكون هناك رخصة للصلاة جماعة في البيت متوازية مع جماعة المسجد على أساس أننا نمتلك من التقنيات ومفردات التكنولوجيا من التواصل تمامًا مع الإمام.
ولقد لاحظت في أثناء أدائنا لصلاة الجمعة في أحد المساجد أننا كنا خارجه ونأتمَّ بإمامه، وأننا لم نسمع صوته في قراءته لسورة الفاتحة والسورة التي تليها، وكل ما يمكننا أن نستمع إليه صوت ترجيع المؤذن وراءه حتى نركع أو نسجد، وهي في اعتقادي رغم عدم تواصلنا معه في الاستماع إليه صلاة جماعة، فلماذا يُحْكَمُ بعدم جواز الصلاة عن بُعْدٍ رغمَ إمكانية رؤية الإمام والاستماع إليه.
إنني لا أدِّعي بهذا المقال بجواز ذلك الفعل أو أنني أحلِّلُهُ، بل أطرحُهُ سؤالاً أوجبته ظروف عصرنا وما آلَ إليه حالنا بعد خشية انتشار المرض، وهو يحتاج إلى جواب من علمائنا الأجلاء في الأزهر وغير الأزهر.
وأليس هذا من باب تجديد الخطاب الديني.
التعليقات متوقفه