رفيق رسمي
كانت تُقدم لي دعوات لحضور حفلات رمضانية في فنادق خمسة نجوم في إحدى الدول الخليجية، فقد كنت المسئول عن قطاع الفنون الشبابي في إحدى هيئاتها الكبرى، وذات مرة طُلب منى أن أتكلم وأفصح عن رأيي في شهر رمضان، وساد الصمت تمامًا فى كافه ارجاء المكان، وصعدت إلى المنصة، والجميع ينظر إلىّ وينتظرون ما سوف أقول، وأنا المسيحي الوحيد في الهيئة كلها منذ أكثر من عشر سنوات، فالموقف في غاية الحساسية، فالجالسون كبار الشخصيات في الدولة، وحاصلون على أعلى المناصب والشهادات، وخاصةً أنه عُرف عني الجراءة التامة والصراحة الشديد دون ادني مجامله ، ولم أفكر كثيرًا، وتكلمت بنية صافية وقلب محب كعادتي.. وقلت: “أتمنى أن يصير رمضان 12 شهرًا في العام”، فتعالى صوت الحاضرين في تذمر وضجر وضحك وتعليقات من كل صوب ولون، فالبعض يقول: “حرام عليك، عاوزنا نصرف أموالنا كلها على الطعام والشرب، دا أحنا بنصرف فيه أكثر من السنة كلها”، وآخر يقول: “دا وزننا بيزيد جدًا في شهر واحد، فما بالك لو أصبح 12 شهرًا”، وأحد المسئولين الكبار قال: “لا أحد يعمل في رمضان، وكافة المصالح الحكومية في الدولة تتعطل بحجه الصيام، وتتعطل معها مصالح الشعب والدولة”، وآخرون قالوا: “لا أنت مش عارف أن رفيق مخرج، ورزق الفنانين كله في رمضان لغزارة الأعمال الفنية فيه، فهو موسم المسلسلات والبرامج التليفزيونية”.
وصار كل فرد يعدد ما في شهر رمضان من مساوئ سلوكية للناس، وعادات وتقاليد تدمر تقدم الدولة وازدهارها، وتحد وتعوق من سلوكيات الحياة الطبيعية، من زيادة الاستهلاك، وشراهة في الانفاق، والاسترخاء والكسل، وما إلى غير ذلك. وطالت الجلسة، والكل يسهب ويطيل مما سوف يحدث إذا صار رمضان 12 شهرًا في العام من تدمير، ومن فساد للحياة الطبيعية لما اعتاد عليه الناس من سلوكيات خاطئة، وتسابق الحاضرون في تعداد تلك العادات وحصرها، ولا مجال الآن لذكرها كلها.
وجاء دوري كي أختم الجلسة وأفصح عما أبطن بما قلت، بعدما طال التعليق من الجالسين. فقلت: “في رمضان أجد أحبائي المسلمين تسود عليهم بقوه حالات الصدق والورع والتقوى والخوف من الله والحرص التام على إقامة الصلاة في وقتها، والتسابق على فعل الخير بكل عزم وإصرار ونيه مخلصه لله، وتتملكهم النخوة في إغاثة الفقير والمحتاج والمريض والمسن، ويتملك عليهم الإيثار وتفضيل الآخر، ويجتهدون بكل طاقتهم في إتباع الفضيلة والمثل العليا والأخلاق الحميدة. الكل يخاف الله، ويجتهد بكل قوته أن يفعل الخير ويمتنع عن أيه شرور مهما كانت صغيرة، بل ويكون حريصًا كل الحرص ألا يقع في اي صغيره من من الصغائر والموبقات. وليست الكبائر فحسب ، فالشباب يغض البصر ويهرب من أيه شهوات شبابية، والفتيات تمتنعن تمامًا عن أية لقاءات عاطفية حتى البغايا منهن (وهذا بكل تأكيد فالزنا يقل إلى أدنى معدلاته على الإطلاق في رمضان حتى من غير الملتزمات دينيًا)، ومعظم اللصوص الكبار والصغار يمتنعون تمامًا عن أية سرقة في رمضان، بل وأن بعضهم يقيمون الموائد الرمضانية لإطعام المساكين والفقراء بسخاء بالغ ومبالغ فيه، ويسارعون في تقديم الزكاة من أموال وملابس وغيرها، هذا و غير الملتزمين دينيًا يقيمون أيضًا نفس الفعل، ولك أن تتخيل الأثر الايجابي القوى للغاية في التكافل الاجتماعي وبث روح التعاون والتأخي بين كافة طبقات الشعب، والكل يخاف من أن يظلم أحدًا، والغالبية العظمى تتملك عليها روح العدل والإنصاف وإعطاء المظلوم حقه، وبعضهم يتجنبون بشدة الاغتياب والنميمة وأكل لحم أخيه حيًا، وتُمنع تمامًا الرشاوى من وإلى الموظفين لإنهاء معاملات الناس، ومن عمل عملًا في رمضان يتقنه، ويتم الحرص على صله الرحم أي الود والوصال الأسري، …الخ. أشياء كثيرة للغاية رائعة تتم في رمضان لا يسعني الوقت لحصرها، فالكل يردد دائمًا (اللهم أني صائم)، ودائما يتذكرون ويقولون: “دا حرام إحنا في رمضان”..
تخيلوا معي حال المسلمين ومستقبلهم لو صار سلوك رمضان هذا من الأخلاق الدائمة المستديمة والمستدامة وأصبحت عادة يوميه ملازمة لهم ، أي صارت نهجًا ومنهجًا ونمطًا سلوكيًا مستمرًا طوال حياتهم كلها، أي صار هذا السلوك حياتيًا يوميًا لمدة 12 شهرًا في العام، يعتادون عليه ويورثونه لأبنائهم وأحفادهم؟ وماذا لو اتبع كافة المسلمين هذا السلوك منذ بدء الدعوة الإسلامية وحتى الآن، لو كان قد تم هذا السلوك منذ القرون الأولى للإسلام؟ ماذا سيكون حال المسلمين الآن؟ وماذا كان وسيكون وضعنا الآن بين كافة دول العالم المتحضر؟؟؟ ولماذا لم يحدث ذلك بين كافة الشعوب الإسلامية طوال تاريخهم منذ ان بدأت الدعوة للإسلام؟ وما هي الأسباب التي تمنع وتعيق سواد وانتشار هذا السلوك طوال العام بين المسلمين طيلة كل تلك القرون؟ ولماذا لم تصر عادات يومية لهم؟ هل توجد نصوص دينية مضادة تعيق ذلك سواء قرآن أو سنة؟ هل فعلا توجد ولكن يساء فهمها وطرحها وتفسيرها ؟ ام تقصير من الائمه والدعاة والقادم الدينيين؟
هل هو شهر واحد فقط تقوى وورع سيغفر الله فيه كافة الكبائر والموبقات التي تُرتكب مع سبق الإصرار والترصد طوال العام؟؟ يغفر ما تقدم وما تأخر من كافه الذنوب بلا استثناء ؟ إذًا هيا نرتكب كل الذنوب طوال العام ونصوم رمضان فيُمحى ما تقدم وما تأخر منها؟؟ ما هو الحال الذي كانوا سيصيرون إليه وعليه المسلمون لو التزموا طوال العام بالفضيلة؟ وما هو حالنا معكم وأنتم أولو الأمر منا في البلاد الإسلامية؟؟ بدلًا من الوضع الذي لا نحسد عليه جميعا الآن أبدًا أبدًا ولا يتمناه عدو ولا حبيب؟؟؟ وكيف ستكون نظرة كافه الشعوب غير المسلمة إلينا إذا طبقوها فعلًا؟ وكيف كنا سنتعايش مع الديانات والشعوب الأخرى بهذا السلوك؟؟؟
وهل هناك أمل أن يتم تطبيقه مستقبلًا بعد أن فشل طوال كل تلك القرون السابقة من التجريب المستمر والدائم؟ وماذا بعد أن فشلت كافة محاولات التجريب فشلًا تامًا وذريعًا ومطلقًا ؟؟ وما هو مستقبل الأمة الإسلامية كلها في ظل هذا الإطار السلوكي الحادث الآن على أرض الواقع العملي الفعلي؟ هل من أمل ؟؟؟ وليس بأحلام (الينبغيات)، أي ما ينبغي وما يجب أن يكون، وهو ما لم يتم تحقيقه ابدا إلى الآن عمليًا في أرض الواقع الذي يشهد فشل متكرر ودائم ؟. وإي دفاع عن ثوابت الإسلام وقيمه النبيلة الراقية السامية أقوى من عادات سلوكية مثل تلك؟ وأية دعوة إليه أقوى من هذا وأشد عمقًا وأبقى أثرًا من الخطابة وعلم المنطق والبيان والبلاغة اللفظية وكل فنون الكلام، رغم أن الله قال لهم: “فقل اعملوا فسيرى الله عملكم”، ولم يقل تكلموا كما يفعلون الآن من يدعون أنهم مؤمنون ويتسابقون على تكفير الآخر. وقال أيضًا: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، و”لا فرق بين عربي على عجمي ألا بالتقوى”، والتقوى دليلها وبرهانها يظهر في السلوك، والسلوك يظهر ما في الضمائر والعقول والقلوب بصدق دون مواراة أو إخفاء أو كذب، أما المنافق فهو يقول ما لا يفعل، يقول حلو الكلام وأعذبه وأكذبه، وهو أشر على الدين كله والدولة والمجتمع، وكما يُقال: “أنت تؤمن بالله حسنًا تفعل والشياطين أيضًا يؤمنون ويقشعرون”، لأنها تعلم بوجود الله علم اليقين، وتعرفه أكثر منا نحن البشر بملايين المرات، ولكن سلوكها هو الذي يميزها، و”الدين المعاملة”. إخوتي وأحبائي، متى سيصير سلوك المسلمين 12 شهرًا في العام هو نفس سلوكهم طوال شهر رمضان؟؟؟؟ أرجو الإجابة. وغلف الصمت المكان تمامًا، وأنهيت كلمتي، وذهبت إلى طاولتي، وساد الصمت لفتره طويله .
التعليقات متوقفه