الآبائية والكهنوت في ميزان الفكر الحديث: حوار مع الكاتب المغربي يوسف هريمة
كيف يعالج القرآن الكريم قضايا الانغلاق والتقليد
حوار صحفي مع الكاتب يوسف هريمة حول كتابه الجديد “الآبائية أو سلطة الكهنوت”
حاوره الناقد خالد محمود
يوسف هريمة، الباحث والكاتب المغربي البارز، يفتح لنا عبر هذا الحوار أفقًا فكريًا متجدّدًا حول قضايا ثقافية ودينية معقدة، مستعرضًا أهم محاور كتابه الأخير الذي يناقش مفاهيم “الآبائية” وسلطة الكهنوت وتأثيرها على المجتمعات. بأسلوبه الرصين وأفكاره العميقة، يسلط هريمة الضوء على الأبعاد الفكرية والاجتماعية لهذه القضايا، مقدمًا قراءة قرآنية تحليلية لتفكيك ثقافة الانغلاق والتقليد. هذا الحوار، الذي أجرته “الجمهورية والعالم”، يمثل رحلة تأملية تجمع بين عمق التحليل وحداثة الطرح، كاشفًا عن إسهام هريمة في إعادة صياغة المفاهيم الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالتقاليد والانغلاق.
في البداية، نود أن نعرف، كيف ولدت فكرة هذا الكتاب؟ وما الذي دفعك لتناوله؟ عنوان الكتاب لافت ومثير للتساؤل. ما المقصود بـ”الآبائية”؟ وكيف تفسر سلطة الكهنوت التي تناولتها؟
ابتدأت فكرة الكتاب منذ أيام الجامعة، وتحديدا أثناء فترة الإجارة حيث كان بحث التخرج مرتبطا بتتبع موضوع الآبائية انطلاقا من القرآن الكريم. وهذا الموضوع كان تحديا حينذاك لأن تتبع الموضوعات انطلاقا من القرآن الكريم ليس بالأمر الهين من جهة قلة المراجع المرتبطة بالموضوع، وكذلك التعامل الموضوعي مع قضية جوهرية تناولها القرآن بشكل مفصل.
وحينما نتحدث عن الآبائية فالمقصود بها تحديدا الأبعاد الزمنية التي تتعلق بالآباء أو الأجداد في السياقات التي تتحدث عن الأنساب أو التاريخ.
هذه الآية قد تشير إلى العلاقات بين الأفراد وذرياتهم، أو إلى مفهوم وراثة القيم والمبادئ من الآباء إلى الأبناء. في القرآن، نرى بعض الآيات التي تذكر الآباء والأجداد في سياق التربية الدينية والروحانية. تعتبر الآبائية في هذا المفهوم من المفاهيم الهادرة للإنسان، والساعية إلى قهر الكائن البشري، حيث أن أخطر ما تتضمنه فكرة الآبائية هي فكرة الانكفاء على الذات، وهي حالة نفسية وثقافية تظهر لدى الأفراد والمجتمعات نتيجة لشعورهم بالعجز وانعدام الحيلة أمام الظروف المحيطة.
هذه الحالة تدفع الأفراد إلى الانسحاب من التفاعل المجتمعي والاقتصادي والسياسي، متجهين إلى عزلة داخلية، حيث يعززون الهروب من الواقع عبر التمسك بأمور معينة تشعرهم بالأمان والاستقرار.فيلجأ الإنسان إلى التمسك بالتقليد، حيث يصبح وسيلة للهروب من التغيير، كما يتشبث بالممارسات والعادات القديمة ويقاوم أي محاولة للتجديد أو التحديث. هذا التمسك بالأمور التقليدية يُشعره بالاستقرار والأمان ويمنحه إحساسًا بالانتماء إلى مجتمع أو مجموعة معينة، مما يقلل من حالة القلق والتوتر الناتج عن المتغيرات الحديثة. في هذا السياق، تبرز رغبة الأفراد في التعلق بالماضي المثالي والمجيد الذي كان أكثر استقرارًا وقوة مقارنة بالحاضر.
إن مفهوم الآبائية يتقاطع من زاوية أخرى مع مفهوم الكهنوت الديني، الكهنوت وهو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى مجموعة من الأفراد أو طبقة دينية تم تكريسهم لخدمة الطقوس والشؤون الدينية داخل تقاليد أو ديانات معينة.
الكهنوت غالباً ما يرتبط بالدين المسيحي، ولكنه موجود أيضاً في العديد من الأديان الأخرى مثل اليهودية والإسلام وبعض الديانات التقليدية.
ففي المسيحية، يُعتبر الكهنوت وظيفة روحانية تتضمن إتمام الأسرار والطقوس مثل القداس الإلهي، وتقديم التوجيه الروحي لأفراد المجتمع. في الكنيسة الكاثوليكية، يُقسّم الكهنوت إلى ثلاث درجات: الشمّاسية، الكهنوتية، والأسقفية، ويعتبر هذا الدور مقدساً بحيث يتم منحه عبر طقس خاص يُعرف بـ”سيامة الكهنة”.
أما في اليهودية، فإن الكهنوت يتركز حول سلالة معينة، حيث أن الكهنة (أو الكوهانيم) ينحدرون تقليدياً من نسل هارون شقيق النبي موسى. ويعتبر هؤلاء الكهنة مسؤوليين عن تقديم الذبائح وإتمام الطقوس في الهيكل.
أشرت إلى أن الكتاب يعرض كيف فكك القرآن الكريم ثقافة الانغلاق. هل يمكنك إيضاح هذه الفكرة وكيف عالجها القرآن؟ ما هي أبرز القضايا الفكرية أو المفاهيم الثقافية التي يركز عليها الكتاب؟ كيف يمكن لهذا الكتاب أن يسهم في تغيير المفاهيم الثقافية والاجتماعية المرتبطة بالتقليد والانغلاق؟
يتجلى موضوع الآبائية في القرآن الكريم بشكل متميز، حيث يسلط الضوء على قضايا عدة تمس حياة الإنسان في مختلف جوانبها. ومن خلال الطرح القرآني، يتم تناول هذا الموضوع من زاوية متعددة الأبعاد، حيث يظهر القرآن كيف أن هذا الفكر الآبائي يشكل عائقاً كبيراً في مسيرة التقدم الاجتماعي والثقافي والديني للبشرية.
هذه الإشكالية ليست محصورة في فترة زمنية معينة، بل هي حالة تتجدد عبر العصور، مما يجعلها موضوعًا مستمرًا في الواقع المعاصر. وفي وقتنا الحالي، يعكس هذا التشتت والاستقطاب بين المذاهب والطوائف التي نشأت في العصور السابقة، والتي لا تزال تتحكم في مجريات حياتنا بشكل قوي. فنجد أن بعض الحركات السلفية التقليدية والرجعية لا تزال تقود المجتمع إلى الوراء، ما يساهم في تأخر الأمم عن مواكبة التطورات الكبرى التي يشهدها العالم. هذا التوجه يحد من قدرة المجتمعات على الاندماج في محيطها الاجتماعي والثقافي، ويجعلها في حالة من الجمود.
القرآن يسلط الضوء على فكرة الآبائية كمشكل مستمر يعيق التفكير العقلاني ويسمح بالتقليد الأعمى، حيث يصبح الدين مجرد ممارسات وشعائر فارغة من معانيها الروحية والإيمانية. تلك الأنماط الجامدة التي نشأت من تأثيرات فكرية ضيقة أصبحت تشكل إشكالية حقيقية، حيث تحول الدين من كونه مرشدًا للحياة إلى عامل تفرقة ومعوقات للفكر والابتكار.
الآبائية في هذا السياق ليست مجرد صورة من الماضي، بل هي نمط تفكير يعيد إنتاج نفسه عبر العصور، ويظل يشكل عائقًا أمام التقدم. وتظهر هذه الظاهرة بشكل جلي في المجتمعات التي عاشت في فترة الجاهلية، حيث كانت السلوكيات تتمحور حول التعصب والتقليد الأعمى، كما كانت الوثنية هي السائدة في تلك الحقبة.
لكن القرآن الكريم يشير إلى أن هذا الفكر لا ينحصر في ذلك الزمان فقط، بل هو ظاهرة فكرية متجددة، تحتاج إلى تفاعل ووعي نقدي لفهمها وتجاوزها. من خلال التحليل القرآني، يتضح أن الآبائية ليست مجرد تمسك بتقاليد الأجداد، بل هي رفض للحقائق الجديدة والمستجدات التي تطرأ على الحياة، وهي تعبير عن الخوف من التغيير والتمسك بما هو مألوف.
هذه الفكرة التي يطرحها القرآن تشير إلى ضرورة الانفتاح على الحقيقة ورفض الجمود الفكري الذي يعطل التفكير المستنير.
الكتابة عن موضوع حساس كهذا قد تواجه بعض النقد أو الجدل. كيف تستعد لذلك؟ من وجهة نظرك، ما الفرق بين الآبائية كمفهوم فكري، وبين الالتزام بالتقاليد بشكل عام؟ هل تعتقد أن هذا الكتاب يخاطب فئة معينة من القراء؟ أم أنه موجّه للجميع؟
كل المواضيع في سياق الثقافات المنغلقة هي مواضيع حساسة، وإذا أخذنا بهذه القاعدة فلن نكتب شيئأ، لأن المجتمع من طبيعة الحال حينما يغلق على نفسه سبل الانفتاح، وينحصر داخل حقيقته ينتج ردود أفعال غالبا ما تكون انتكاسة إلى الوراء، ورجوعا وتمسكا بالماضي، بأنه بالنسبة إليه الماضي على الأقل يشعره بالأمان، أما المستقبل فهو مجال غامض لا يستحق المغامرة بالأفكار وما ورثناه عن الآباء من أجله.
هذا الشعور هو إحساس نفسي، أكثر منه موقف عقلي ناتج عن قراءة موضوعية للواقع وامتداداته وتداعياته. وبالتالي فالكتاب هو دعوة إلى تفكيك الآبائية وارتباطات مفهومها بكل المفاهيم المجاورة لها، مثل التسلف، أو السلفية، والتقليد، والكهنوت، والوصاية الدينية وغيرها من المفاهيم.
لهذا أعتقد بأن الكتاب بالرغم من أن مجاله هو مجال التفسير القرآني الموضوعي، إلا أنه موجه للجميع على اعتبار أن قضيته تهم الجميع، وليس كتابا نخبويا، أو خاصا بفئة دون أخرى؟
ذكرت أن الكتاب يتناول تفسيراً موضوعياً. كيف توصلت إلى هذا التفسير؟ وما المنهجية التي اعتمدتها؟ ما هي التحديات التي واجهتك أثناء كتابة هذا الكتاب، سواء من ناحية البحث أو التحرير؟ ما الدور الذي لعبته دراساتك وخلفيتك الفكرية في صياغة هذا الكتاب؟
لم أتوصل إلى التفسير الموضوعي، فهذا النوع من التفسير، أو المقاربة القرآنية، هو من المقاربات المعاصرة في تفسير القرآن قام بها مجموعة من المفكرين المعاصرين. والهدف الأساسي من الكتاب هو وضع القارئ في إطار قرآني نقدي يتناول التقليد ويعيد الاعتبار للتفسير الموضوعي باعتباره أداة فاعلة في نقل الفهم القرآني حول قضايا متعددة.
إن التفسير الموضوعي يقدم رؤية مغايرة للنظرية التقليدية كما تُعرض في الأدبيات العلمية التجريبية. ففي حين يُفهم مفهوم “النظرية” في السياق العلمي على أنه مجموعة من الفروض القابلة للاختبار، فإن النظرية في القرآن تتجاوز هذا الفهم السطحي لتصبح إطارًا فكريًا متكاملاً يجمع بين النصوص القرآنية والواقع الاجتماعي والسياسي.فالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم يتبنى فكرة أساسية مفادها أن النصوص الدينية يجب أن تُفهم ضمن سياقها الاجتماعي والتاريخي، مما يتيح استخراج معانٍ عميقة وملائمة لحياة الناس في مختلف الأزمنة. على هذا النحو، يصبح التفسير عملية تفاعلية بين العقل والنصوص الدينية، حيث يجب أن يكون الإيمان مدعومًا بفهم عقلي يضمن تطبيقه في الحياة اليومية.
وبذلك، يتحول مفهوم النظرية في القرآن إلى رؤية شاملة تجمع بين الدين والعقل، بحيث يُعتمد على التفسير العميق للنصوص القرآنية التي تعكس التفاعل بين الروح والمادة. هذا الإطار الفكري يسعى إلى تحقيق العدالة والتنمية في المجتمعات الإسلامية من خلال تطبيق القيم الإسلامية في السياقات المعاصرة.
كيف ترى تأثير الفكر الديني التقليدي على المجتمعات العربية اليوم؟ وهل تعتقد أن هناك مساحة للتغيير؟
الكتاب في حقيقته هو محاولة موضوعية في قراءة قضية شائكة من قضايا التفكير الإنساني، وهي التمسك بما وجدنا عليه الآباء. وبالتالي فتأثير الكتاب أو أهميته في الخروج بنسق متكامل لمعالجة هذا الموضوع داخل نصوص مختلفة من القرآن، وهذه هي أهميته، أي أنه يفتح بابا للمعرفة والإدراك المجسد والمبثوث في آيات ظل التفسير القديم يتعامل معها بشكل مجزأ، حيث لا يرى فيها إلى الجوانب اللغوية والبيانية، وضاعت حقيقة الموضوع أو القضية أو المشكلة الإنسانية.
وبما أن موضوع الآبائية هو موضوع يلامس الجوانب الإنسانية في حياة الأفراد والمجتمعات فإننا نجزم بأن موضوع الكتاب له مكانته داخل هذا الفضاء الفكري الديني، وبالتالي له قدرته على التغيير الذهني في بيئة تؤمن بأن التقليد أو التسلف هو جزء من ثقافتها، وحينما تدرك بأن هذه المظاهر النكوصية جاء القرآن الكريم لكي يحاربها، أو يفككها، فحينذاك تصبح مساحة التغيير أكبر مما يتوقعه المرء.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن مسألة التغيير ليست مسألة فجائية، بل هي مسار وسيرورة في الزمان والمكان، وتحتاج لوقت وظروف تساعد على إنتاج وعي بخطورة الوصاية الدينية، والاحتكار الذي يزعمه البعض في التعاطي مع الدين.
باعتبارك صاحب ستة كتب سابقة، أين تجد هذا الكتاب ضمن رحلتك الفكرية والإبداعية؟ ما الدور الذي لعبه الدكتور ممدوح غالي والمكتب العربي للمعارف في إصدار هذا الكتاب؟ كيف كانت تجربتك مع معرض القاهرة الدولي للكتاب؟ وما هو انطباعك عن استقبال الجمهور لهذا العمل؟ في ضوء كتابك، ما هي الرسالة التي تود إيصالها إلى القراء؟
الكتب الستة في الحقيقة كانت جماع لأفكار عمرها أكثر من عشرين سنة، وهي قابلة للتغيير والتفكيك والمراجعة، وبما أن الكتب هو حلقة من حلقات هذا المسار الفكري، فإنه بلا شك سيجد القارئ المناسب له، أو المهتم بموضوعه، أو الناقد لمضامينه وأفكاره، وبهذا الجدل الفكري، والنقاش المثمر يمكننا أن نؤسس لفضاء سمته الحوار والنقاش والتفاعل الإيجابي.
وهنا لا ننسى الدور الكبير الذي لعبه الدكتور ممدوح غالي الذي ساهم من خلال الدار النشر التي يديرها في نشر كل كتاباتي، والعمل على طباعتها والترويج لها، والثقة في هذا القلم بالرغم من كثرة العثرات.
ومن المؤكد أن هذا هو السبيل الوحيد لنخرج من الظل إلى العلن، ونساهم بشكل من الأشكال في الرفع من منسوبية الوعي داخل الفضاء العام الإسلامي، والتمرن على النقد الذاتي باعتباره الطريق الأوحد لصناعة الأمل في مجتمعات متجددة في فكرها وحاضرها بنوع من الطموح اللامحدود.
أخيراً، ما هي مشاريعك القادمة؟ وهل هناك أفكار لكتب جديدة قيد الإعداد؟
المشروع هو إعادة صياغة كتاب قديم بما يتناسب مع تطورات الفكر المعاصر، ولدي الرغبة في كتابة كتاب خاص عن الأصولية الدينية واستراتيجياتها في العمل إن استطعت فعل ذلك. شكرا لك.
اقرأ أيضا:
التطور الثقافي وذهنية التحريم: تحليل شامل مع يوسف هريمة
التعليقات متوقفه