دلالات الرمزية والإسقاط في قصة الحزن يميل للممازحة للكاتب محمد مستجاب

782

بقلم د.أمل درويش

المقدمة:

“الأصل في الكلام أنه وسيلة تتوسل بها إلى الإعراب عما تريد أن يفهمه عنك غيرك، فهمًا واضحًا جليًا لا لبس فيه ولا غموض.”

هكذا يصف الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي السرد؛ فقد سادت دعوات النقاد مع بداية ظهور فن القصة القصيرة في القرن التاسع عشر إلى اعتماد أساليب سردٍ بسيطة سهلة يتيسر على القارئ فهمها دون معاناة لفهم ما وراء الحروف، واستخدام مفردات رقيقة تجذب القارئ فلا يملّ ويهجرها سريعًا.

ومن دعاة ذلك رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني واليازجي وغيرهم.. وعلى ذلك النهج سار معظم الكتاب خاصةً في ظل ظروف عدم انتشار التعليم ووصول القليل إلى المستوى الجامعي وضعف انتشار الثقافة بين فئات الشعب المحاصر بالفقر والذي يكون آخر اهتماماته القراءة وشراء الكتب.

غير أن الكاتب محمد مستجاب كان له رأي آخر في كتاباته؛ فقد لجأ إلى أسلوب آخر اختمر بطابع الرمزية وتخفى برداء الإسقاط مع الحرص على الإطار الساخر الجذاب كي لا يفقد القارئ شغفه لعلمه بطبيعة الشعب المصري المرحة المحبة للفكاهة.

ونحن إذ نتناول هذين الجانبين في قصته القصيرة (الحزن يميل للممازحة) موضع الدراسة نستعرض الرموز والإسقاطات التي استخدمها الكاتب ليعبر عن فكرته وعن مكنون آلامه نحو وطنه ومعاناته على مر الزمن.

اندماج وتناغم السيريالية مع السخرية:

تُعد القصة القصيرة نوعًا من أنواع السرد الأدبي لكنها أقصر من الرواية وأطول من الأقصوصة، وهي تتناول مدة زمنية قصيرة بالنسبة للرواية وكذلك تعنى بمكان محدد للتعبير عن حدث أو موقف من المواقف التي تحدث في الحياة.

ويعرفها الدكتور رشاد رشدي بأنها لون من “ألوان الأدب الحديث”، ويُعدها الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة، ويقول: “لكي تكتمل للقصة القصيرة مقومات الشكل يجب أن تصور حدثًا كاملًا يجلو موقفًا معينًا..”

وقد اعتمد الكاتب محمد مستجاب أسلوب الكتابة الساخر الذي سار فيه على درب الكاتب الكبير محمود السعدني الذي كتب له في مقدمة كتابه (حكايات قهوة كتكوت) يقول:

“أربعة ظللت أخشاهم دهورًا: سيدنا محمد عثمان شيخ الكتاب، خالي أحمد خميس ناظر مدرسة النصارى، عفريت كان يداهمني بين ليلة وأخرى أثناء تسللي إلى غيط طماطم الجيران ليلًا، وامرأة كانت تفتح عينها وترفع حاجبها تحديًا وهي تخطو فوق العتبة لتدخل إلى واحد من أثرياء بلدتنا دون اهتمام بمشاعرنا، وخامسهم السعدني _محمود_ هذا الذي جذب القصة من بين آهات يوسف السباعي ونوافذ حارة نجيب محفوظ وإنسانية محمود البدوي وحزن يوسف إدريس المرير.. جذبها من شعرها- هذه القصة المكتوبة في الورق المسطور، وألقى بها على أرضية الشارع المكفهر..”

إلى آخر هذا الوصف الشيق والمفردات الأنيقة التي تتبادل الأدوار مع الأخرى الساخرة الخفيفة الظل الرشيقة التي تناسب روح المصري البسيط الذي يحمل بين طيات روحه فلسفة خاصة تُحيل الوجع إلى ضحكات والآلام إلى ابتسامات والشكوى إلى نكات. ويعرف الأدب الساخر بأنه هو كوميديا سوداء تعكس أوجاع المواطن السياسية والاجتماعية، ويقدمها بقالب ساخر يرسم البسمة على الوجه، ويضع خنجرًا في القلب..  ولكن الكاتب محمد مستجاب لم يكتفِ بهذا فقط؛ بل مزج الأدب الساخر بالطابع السيريالي ليُصدّر لنا أدبًا من نوع أنيق رغم بساطته، فخمًا رغم سلاسة تعبيراته، قريبًا من القلب رغم رمزيته وعدم تصريحه وغموضه في بعض الأوقات..

هكذا كانت مجموعته القصصية (الحزن يميل للممازحة) ورغم التخفيف من جرعة السيريالية والسخرية في قصة الحزن يميل للممازحة على عكس رفيقاتها في نفس المجموعة؛ إلا أنها كانت مشحونة بالرموز والأساليب التي حاول من خلالها الكاتب التعبير عن أفكاره.

العتبة الأولى للنص (العنوان):

العتبات هي المداخل التي يتجاوزها القارئ لكي يصل إلى النص، ومن أهمها العناوين والعناوين الفرعية والإهداءات والاستهلالات وتصنف بأنها من لوازم النص”  وقد اختار الكاتب محمد مستجاب عنوان القصة هو نفس عنوان المجموعة وهو الحزن يميل للممازحة، عنوان ساخر يدهشك ويثير زوابع الفكر ويشغل جميع الحواس.. غير أنه لا يعدو كونه أحد أساليب الكاتب التي اعتاد التعبير بها وأبدع في اختيارها؛ فها هو يطلق هذا العنوان الذي تقف أمامه ولا تعرف هل تحزن أم تفرح؟ هل تتألم أم تنتشي سعادة؟

الحزن يميل للممازحة: جملة اسمية مركبة ابتدأها الحزن متوشحًا وجه النهار يرسم ضحكاتٍ ساخرة ليستميل بها الروح فتركن إليه وتمنح القلب هدنة من آلامه وعذاباته.

الغلاف الخارجي:

بنظرة سريعة للغلاف الخارجي نجده عبارة عن لوحة سيريالة للفنان التشكيلي يوسف سيد تحمل اسم “بطل الشعب المصري العربي” وبرغم تنويه هيئة الكتاب أن صورة الغلاف قد لا تعبر عن المحتوى الداخلي للكتاب؛ إذ أنها إضافة جديدة من مكتبة الأسرة الراعي لهذا الإصدار ولكنها بالفعل عبرت عن حالة السيريالية التي يعيشها البطل كأحد أفراد هذا الشعب المشوش فكريًا والمطحون فعليًا..

 الســـرد: 

يبدأ الكاتب القصة بنداء للحزن فيقول: “يا أيها الحزن البدين تحية..”  مما يوحي للقارئ بأن هذا الحزن إنسان صديق مقرب للبطل يناجيه ويتخاطب معه، ولم يكتفِ بذلك بل وصفه بالبدين ليؤكد اكتسابه لصفات البشر ثم يتساءل بعدها مستفهمًا (بدين؟) ليوضح في الجملة التالية سبب استخدامه لهذا الوصف، فيقول: “نعم: بدين مقابل الحزن الثقيل”  وكأن البطل يحاور القارئ ويصف له مشهدًا يقف فيه متحدثًا مع الحزن.. وللوهلة الأولى لا يمكنك هنا أن تفصل الكاتب عن البطل..ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظره فيقول: “أسوأ مدخل لقصة قصيرة في العالم والغيوم تتقافز في حلق الصباح مبتسمة كأنها تود أن توزع الظلام على الجميع..”  وبعد أن يسرد الكاتب قصته ينهيها كما بدأها فيعود وينادي رفيقه الحزن قائلًا: “يا أيها الحزن البدين تحية” ويعود ويطرح نفس السؤال: “بدين؟” غير أن الإجابة تختلف هذه المرة إذ يختلف تفسيره لمعنى صفة البدانة فيقول: “نعم بدين في مثل حجم العار الذي يملؤك” ثم يختم تفسيره بشرح نهاية القصة حيث يقول: “أسوأ نهاية لقصة قصيرة في العالم، والظلام يتقافز وسط بقع الضوء.”

وما بين البداية والنهاية الكثير من الرموز والإشارات التي تحتاج منا لسبر أغوارها وتفسيرها.

الشخصيات:

تبدأ القصة على البطل محور الأحداث الذي لم يوضح الكاتب شكله أو عمله أو أي تفاصيل عنه سوى أنه محاصر بالرسائل التي تصله وتشجب وتندد بأفعال والدته التي تعيش في قريته ومسقط رأسه، ثم يعدد البطل بقية إخوته، فنجد الشخصيات بالترتيب:

  • الأخ الأكبر ضابطًا
  • الثاني مديرًا لعدة مدارس
  • الأخت الكبرى الأرملة سابقًا لقاضٍ افترسه ذئب
  • أخ آخر تاجر أوراق صحف راكدة (كما وصفه) ووصفه أيضًا بأنه يعرف طريقه إلى تحقيق مآربه دون ضجيج
  • الأخ الأصغر الذي يدير مكتب شيخ الإسلام الكائن في العاصمة القديمة
  • والأخير يعمل مديرًا ومستشارًا وتاجرًا ومهندسًا وخبيرًا في الصباح..
  • ثم الأم التي تلوث سمعة الأسرة بتعدد علاقاتها التي تسببت في تلك الرسائل التي تصله وتطلب منه إيقاف هذه المهزلة.
  • كذلك يذكر البطل ابن أخيه الذي يكتب الأناشيد والأغنيات للإذاعة والتليفزيون.
  • ثم يذكر البطل مديره في العمل الذي يغدقه بكرمه فيمنحه استمارات صرف مقابل المأموريات الوهمية.
  • ثم أحفاد الأم الكُثُر الذين ظهروا بعد مماتها لوداعها، والأب الغائب حتى عن أحلام ابنه.
  • وأخيرًا هذا الشخص الذي جلس أمامه في العزاء لينصحه كيف يمكنه معرفة عشيق والدته والانتقام منه.

لا توجد أوصاف مادية لهذه الشخصيات سوى الرمزية والدلالات، فهؤلاء الإخوة يمثلون شرائح المجتمع ومواطنيه فمنهم ذوي السلطة والنفوذ كالضابط والقاضي (الذي قتله الذئب) والذئب هنا يرمز للمجرم، وأما تاجر أوراق الصحف الراكدة فهو يمثل الصحافة الصفراء، ومدير مكتب شيخ الإسلام الذي يعبر عن فئة جماعات الإسلام السياسي التي ظهرت في مصر والوطن العربي.

وأما الأخ الأخير فذاك يشبه المواطن المصري الشهير بقدرته الفذة على العمل في أي مجال والقدرة على فهم أي شيء فيما يطلق عليه لقب: الفهلوي.

ثم هناك هذا الشخص الناصح الذي يقابله في العزاء ليرشده كيف يصل لمن أغوى والدته هذا الشخص الذي تعمد الكاتب وصفه مرة بأنه “قط يتنمر” ومرة وصف صوته “كالفحيح” كذلك وصف هدوءه بالأصفر..

الزمـــكان: 

لم يحدد الكاتب فضاء القصة سواء الفضاء الزمني أو المكاني، وإن كان حدد مكان العاصمة التي يعيش فيها بمفرده نسبة إلى مسقط رأسه حين قال: “كل الأصدقاء المتناثرين في العاصمة هربوا من مجال رغبتي في اللجوء إليهم”  ثم حدد المسافة بين العاصمة ومسقط رأس البطل بثلاثمئة كيلومترات، قسّمها الكاتب بتفاصيل مراحل عمر البطل:

فعبرت المئة الأولى عن طفولة البطل منذ ميلاده واقترانه بوالدته لإرضاعه حتى فطامه وانفصاله عنها فيقول: “ظللت خلال المائة كيلومتر الأولى أستحلب ثدي أمي، وكلما ترجرج الثدي مع اهتزاز القطار بكيت، وكلما توقف القطار  -بغتة- أو بهدوء- انخلعت حلمة الثدي من فمي.”

ويصف المرحلة التالية فيقول: “وفي المائة كيلو متر التالية ظللت ألهو حول أمي، أتقافز بين الدقيق والسحب والفرن والعجين والأرانب ونيران الاشتعال..”

وأما المرحلة الأخيرة فيقول فيها: “وفي المائة كيلو متر الثالثة ران على القلب استسلام وهدوء.”

الرمزية والإسقاط:

إن حياة الكاتب كان لها بالغ الأثر في كتاباته؛ فقد ولد الكاتب في عام 1938 في صعيد مصر بمحافظة أسيوط، وهذا ما جعله يشهد أحداثًا هامة وجسيمة في تاريخ مصر والوطن العربي، بداية من حرب فلسطين عام 1948 والعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 ثم هزيمة 1967 حتى انتصار أكتوبر في عام 1973، إضافة إلى الكثير من الأحداث والفواجع التي مني بها الوطن العربي ومنها الاعتداءات الصهيونية على فلسطين ولبنان وسورية وغزو العراق للكويت والكثير من الصراعات الدموية في ربوع الوطن العربي.

وها هو يوضح تسلسل المآسي التي ألمت بالوطن العربي فيقول: “ماذا لو دهمتني الملعونة التي يطاردني جسدها البدين، حاربت وانهزمت، ثم حاربت وحوصرت، ثم حاربت وانتصرت بعدها أصبح الجسد الحزين حلما ضاغطًا.”

ثم يصف فترة السبعينيات وما تلاها من هروب الأقلام الحرة من مصر بعد تطبيق سياسة الانفتاح الذي زلزل الكيان الثقافي والوجدان المجتمعي، وتخلخلت طبقاته فصارت الأدنى في القمة، وانهارت القمم فلجأت للهروب من هذا الدمار للحفاظ على كينونة إبداعها وحمايته من الاختلاط بما يشوبه فيقول الكاتب: “كارثة الكوارث أن تستحضر بدنًا لأنثى لا تدري بك، وأكبر من كارثة الكوارث هروب النجوم تحت مطاردة الجراد..”

ويعود ليخبرنا بما أصاب مثقفي هذه الفترة والحركة الغير ممنهجة التي حدثت فتصرف كل منهم بمفرده للنجاة من هذا الطوفان فيقول: “كل الأصدقاء المتناثرين في العاصمة هربوا من مجال رغبتي في اللجوء إليهم.” ثم يصفهم فيقول: “الإخوة موزعون على جسد الوطن البدين، قادرون على الفعل والبراءة من الفعل.”  دلالة على حالة التذبذب والتشرذم التي أصابتهم حين تفرقوا وانتشروا.

وتتوالى أحداث القصة ما بين رمزية الوطن بالأم الخائنة لأبنائها، وما بين الأولاد والأحفاد المشردين المتفرقين في كل مكان، ووحده البطل يحمل إثم الخطيئة ويُطلب منه الثأر منها.

ولكنه يصل متأخرًا ليجد الأم قد توفيت فيقرر الانتقام ممن كان السبب في خيانتها بإيعاز من الشخص المجهول الذي التقاه في العزاء.

كان وصف الكاتب لإخوة البطل وصفًا دقيقًا يرمز لشرائح المجتمع بداية من الأخ الأكبر (ضابط الشرطة) الذي يتوزع أبناؤه في عواصم العالم دلالة على النفوذ والسطوة، والأخ الثاني مدير عدة مدارس (تنتشي على أرض واسعة في الضاحية القريبة) التي ترمز لفئة المدرسين الذين سافروا للدول العربية للعمل هناك في فترة السبعينيات وما بعدها، والأخت الكبرى أرملة القاضي الذي افترسه الذئب، في رمزية لانقضاض طبقة الجهلة والغير متعلمين على طبقة المثقفين واغتيالهم فكريًا وإزاحتهم من الحياة الفكرية والمشهد السياسي، ثم تاجر أوراق الصحف الذي يرمز لفئة المستنفعين الذين تسللوا إلى الصحافة وأزاحوها عن وظيفتها التنويرية وجعلوها سلعةً صفراء ووسيلة للتكسب وخدمة ذوي النفوذ، ثم نصل لفئةٍ هامةٍ طَفَت على سطح المجتمع متسللة في هدوء وهي فئة الإسلام السياسي (مدعي التدين) وامتداد الحركة الوهابية بغطاء سلفي، والأخ الصغير الذي يعمل في كل شيء وهم هوام المجتمع المستنفعين من الطبقات الأعلى والذين يعملون في أي شيء وكل شيء..

ولكن لماذا اختار الكاتب الأم رمزًا للوطن؟

يقول جيلبير دوران:

“الأرض من وجهة النظر البدائية هي مثل الماء، مادة الغموض الأساسية، يعتبر الدارويديون والاتاي نزع الأخشاب خطيئة كبرى لأن ذلك (يتسبب بجرح الأم) وهذا الاعتقاد بالأمومة الالهية للأرض هو بالتأكيد من أقدم المعتقدات.. وعادة وضع المرأة التي تلد على الأرض المنتشرة في الصين والقوقاز وعند قبائل الماوري وفي إفريقيا والهند والبرازيل والباراغواي كما عند اليونان والرومان القدماء تأكيد آخر على عالمية الاعتقاد بأمومة الأرض.”  من هنا يمكننا تفهم سبب اختيار الكاتب محمد مستجاب للأم رمزًا للأرض والوطن.

التناص وإيحاءاته فى السرد:

“إن التناص ينتسب إلى الخطاب ولا ينتسب إلى اللغة، ولذا فإنه يقع ضمن مجال اختصاص عبر اللسانيات ولا يخص اللسانيات..”

استخدم الكاتب أسلوب التناص في عدة مواضع فها هو في البداية يستخدم التناص الحرفي مع الآيات القرآنية: “فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب.”  في إشارة إلى الناس وكيف يميلون إلى الكسل ويركنون إلى الدعة والتراخي حيث أتبع هذه الآية الكريمة بجملة تنفي العمل وتدعو للكسل حيث يقول: “دعك من العمل اليوم”

ثم يعود ويقول : “اقرأ: ما أنا بقارئ..”  في تناص مع رواية الرسول صلى الله عليه وسلم لحديثه مع جبريل عليه السلام مع بداية نزول الوحي بالقرآن، وترمز للمواطن العربي الذي لا يهتم بالقراءة فقد نشرت اليونيسكو في اليوم العالمي للقراءة في الثالث والعشرين من أبريل عام 2019 تقريرًا يفيد بأن العربي يقضي ست دقائق سنويًا في القراءة!

ويتبع الكاتب الرواية الشريفة بنصيحة للقارئ: “اخرج إلى الآفاق الممتدة، تناوشك الرغبة في الصياعة أو الصعلكة..”  حيث يرى الكاتب عالم القراءة آفاقًا ممتدة يسيح فيها القارئ ويقضي وقتًا ممتعًا.. ولكن من يقرأ؟

كذلك استخدم الكاتب شطرة من قصيدة (مصر التي في خاطري) لأحمد رامي كررها مرتين: الأولى بينما كان يُعدد إخوته ويتساءل لماذا هو الذي عليه تصحيح هذا الوضع الذي وضعتهم فيه والدته فيقول: “كيف يتسنى لي أن أجمع كل هذا الحشد حول مائدة، حيث أضع أمامهم تلك الخطابات؟؟ وأمي التي في خاطري وفي فمي؟؟”  وهو يقصد بهذا الحشد الإشارة إلى أفراد الشعب، وأما الثانية حينما كان يتذكر أمه وهو في الطريق إلى قريته لدفنها فيقول: “تقافزت الغيوم من النافذة رافعة عن كاهلي الأثقال، قبل ذلك أو بعد ذلك فإنها أمي، التي في خاطري وفي فمي..”  فما زال الكاتب يؤكد لنا أن الأم هنا ترمز للوطن بكل ما فيه من خيانات ولكن تبقى مكانة الأم في قلوب أبنائها مهما أخطأت في حقهم..

ثم يعود بتناص جديد مع قصيدة (لا تكذبي) للشاعر كامل الشناوي فيقول: “ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك؟”  ثم يستدرك الكاتب فيتبع الحوار الداخلي للبطل بصوت الراوي فيقول: “لاحظ أن قصورًا يشوب هذا البيت في سفحتها إليك، امتداد ألف الضمير مبتور، ولو كان الضمير يقظًا ومشبعًا لما كان هذا الذي أنا فيه الآن..”  وهنا نلاحظ أن الكاتب استخدم التناص اللفظي لكلمة الضمير ولكنه انتقل من معنى الضمير في اللغة والصرف إلى معنى الضمير الإنساني والوازع الداخلي.

ويعود الكاتب فيستخدم أسلوب التناص مع مقطع من (المعلقة الخامسة) لعمرو بن كلثوم حيث يقول الكاتب: “كيف يتسنى لي أن أجعله موعظة أو مقطعًا في موال أو جزء من أغنية شعبية، وإذا بلغ الرضيع لنا فطامًا تخر له الجبابرة ساجدينا، عليك أن ترتاح فلن يبلغ الرضيع عندنا فطاما بعد اليوم، وسوف ترتاح جباه الجبابرة من السجود، كل كلاب العالم سوف تطاردنا أعقابنا..”

إن الكاتب يرمز في البداية إلى الاستعمار (الغريب) بأنه هو من انتهك الأم (الوطن) واستباحها، حتى لم تعد لها ولا لأبنائها كرامة، وضاعت هيبة الوطن بعد تاريخ من العزة والكرامة كانت الأمم الأخرى تنحني لها ولتاريخها وأمجادها فماتت ومن بعد موتها سوف تطارد الكلاب أبناءها..

ولكن في آخر القصة حين ينفذ البطل نصيحة الرجل الذي التقاه في العزاء كي يعرف من فعلها ويقتله عند قبر أمه، وبالفعل يذهب في الليل إلى القبر منتظرًا ذلك العاشق فيجده أكثر من واحد جميعهم جاؤوا للوداع الأخير يبكونها.

فهل بالفعل كان هؤلاء من يعشقونها هم سبب موتها؟ هل أراد الكاتب أن يقول لنا أن من عشقوها هم نفسهم من قتلوها؟

دواعي ورموز المزج بين الفصحى والعامية:

يقول الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس في مقدمة روايته أنا حرة:

إني كتبت قصصًا قصيرة كثيرة بالفصحى، ولا زلت أكتب كل قصصي القصيرة بالفصحى.. ولكن القصة الطويلة لا يمكن.. إنها تبدو مفتعلة سقيمة، إذا كتب حوارها بالفصحى على لسان أبطال لا يتكلمون في حياتهم بالفصحى.

  • القصة الطويلة بالعامية
  • القصة القصيرة: بقدر حاجتها إلى تصوير الجو تكتب حوارها بلهجة أبطالها، وإذا تعتمد على الفكرة أكثر من الجو، يكتب الحوار بالفصحى.

وبالفعل نجد الكاتب محمد مستجاب قد استخدم أسلوب المزج بين اللغة الفصحى برصانتها وتنوعات أساليبها البلاغية مع اللغة العامية لمداعبة خيال القارئ ومحاولةً لمنع ذهنه من الشرود والهروب، وإيصال جو القصة إليه من نفس أجواء بيئة الكاتب في صعيد مصر، فتمتزج المفردات الرصينة بالبيئة النابعة من دفقها لتنتج لهجةً ساخرة تخفف ثقل الهموم ووطأة الموقف.

فها هو يقول: “الله يخرب بيوتكم ويدمر رسائلكم”  فيجمع كلمات شعبية متداولة مع كلمة بالفصحى.. ثم يحدث البطل نفسه فيقول: “ماذا يمكنني أن أفعل؟ صفيحة بنزين؟ عدة طلقات من الرصاص؟ أخنقها بالكوفية؟ أسحبها من شعرها حتى عنان الغيوم وأتركها تسقط وسط دائرة إخوتي؟”

كما حرص الكاتب على ذكر الأسماء الشعبية المختلفة لمحفة نقل الموتى حين قال : ” فقد انتهى الدفن بسرعة، وشال طالبو الغفران الشيالة – أو الحسنية – أو النقالة ..”  ليوضح لنا اختلاف الأسماء باختلاف المناطق الجغرافية، كذلك استخدم لفظ “الدكة” ليعبر عن الأريكة التي يجلس عليها الناس في القرى.

الخاتمة:

استطاع الكاتب إيصال فكرته للتعبير عن آلام الوطن ومواجعه وكيف كان أبناءه سببَ هذه الأوجاع وكيف أهدر الوطن كرامة مواطنيه وشتتهم، ولخّص في إيجاز حالة الشعب وفئاته مع توضيح مواطن الخلل وأسباب الوهن الذي أصاب الأمة في مقتل.. كل ذلك ضمن أطر من الرمزية والإسقاط للخروج من المواجهة مع الأنظمة التي تعسفت في تحجيم الإبداع وتكميم الأفواه في بعض الحُقب البائدة. فمنذ بداية القصة طرح الكاتب سبب أزمة البطل المتمثلة في أفعال أمه والتي تسببت في الرسائل التي تصله، والوسط الذي نثر فيه الكاتب ذكريات البطل ورحلته لقريته وتفاصيل العزاء، وأما النهاية كانت بمعرفته بمن كانوا السبب في خيانة أمه ووقوعها في الخطيئة. ومن خلال لغة الرمز والإسقاط استطاع الإلمام بكل جوانب الفكرة دون الوقوع في فخ الغموض.

المراجع:

  • فصول في الأدب والنقد- الدكتور طه حسين
  • كتاب النقد الأدبي أصوله ومناهجه – الكاتب سيد قطب
  • فن القصة القصيرة د. رشاد رشدي
  • كتاب حكايات قهوة كتكوت- الكاتب محمود السعدني
  • الأدب الساخر أنواعه وتطوره مدى العصور الماضية – بحث للباحثة شمسي واقف زاده جامعة آزاد الإسلامية – إيران
  • الرؤى الثورية في القصة والرواية – الكاتب د. أحمد كريم بلال
  • الأنثروبولوجيا رموزها أساطيرها أنساقها – الكاتب جيلبير دوران ترجمة د. مصباح الصمد
  • نظرية الأجناس الأدبية دراسات في التناص والكتابة والنقد – الكاتب تزفيتان تودورف ترجمة عبد الرحمن بو علي
  • رواية أنا حرة – الكاتب إحسان عبد القدوس
    الدراسة منشورة ضمن سلسلة رؤى نقدية الصادرة عن مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر
Visited 122 times, 2 visit(s) today

التعليقات متوقفه