الكاتب الكبير نبيل عمر يكتب .. لا يا دكتور طارق

1 764

نبيل عمر – 

لم أرتح لكلام الدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم عن أولياء الأمور فى برنامج حديث القاهرة الأسبوع الماضى، ليس لأنه قال كلاما غير صحيح، على العكس كان كلامه صحيحا 100٪، وهو يصف تصرفات أولياء أمور بأنها من الظواهر المريبة، مثل اقتحام المدارس والاعتداء على المدرسين، تشجيع أولادهم على الغش فى الامتحانات، الكتابة فى شئون التعليم على شبكات التواصل الاجتماعى فى موضوعات متخصصة لا شأن لهم بها..الخ.

عدم الراحة راجع إلى اكتفاء السيد الوزير بالتوصيف وتشخيص التصرفات المريبة، مثله مثل أى مواطن عادى مهتم بالتعليم وتؤرقه أحواله المائلة، وليس الوزير التنفيذى المكلف بتصحيح منظومة التعليم وإصلاح عيوبها والرقى بها، إذ قال: لثلاث سنوات ونحن نحذر من وجود قدر عال من المشكلات عند بعض أولياء الأمور، ولا أعتقد أن الأزمة تحل بقواعد وعقوبات، لن نتحول إلى وزارة داخلية، ولا وزارة الداخلية فاضية لتجرى وراء ملايين من أولياء الأمور، هذه مشكلة مجتمعية فى المقام الأول، يجب أن يقف لها المجتمع كله.

باختصار نفض وزير التعليم يده وسحب معه دور وزارته من حل الأزمة، وألقى بكرة النار فى حجر المجتمع كله ليطفئها، صحيح هو لم يكن طرفا فيها، وهى ناتجة عن تراكم أخطاء فادحة لما يقرب من أربعين سنة، ليس منها مجانية التعليم بأى حال من الأحوال، وصحيح أيضا هى أزمة مجتمعية، لكن الدكتور امتنع عن تفسيرها ولم يشرح أسبابها، ويستحيل فى أى أزمة أن نجد ثغرة فيها إلا بتفكيك عناصرها، ولن نتخلص من هذه التصرفات دون معرفة تلك الأسباب معرفة دقيقة وجادة، فالمجتمع أو تحديدا أولياء الأمور لم يناموا ذات ليلة وهم فى غاية الالتزام وصحوا فى اليوم التالى على هذه التصرفات المريبة، ويقدر الوزير عددهم بملايين الناس لا تستطيع وزارة الداخلية أن تلاحقهم.

أتصور أن الوزير لم يفسر الأسباب، لأنها قد تبرئ أولياء الأمور المنحرفين تعليميا أو على الأقل تبرر تصرفاتهم غير المقبولة.

وللأسف وقع التعليم المصرى فى فترة طويلة ماضية فى حفرة التوازنات السياسية أى كان من ضمن أوراق الحكومات فى اكتساب رضا المجتمع فى ظل أزمات المعيشة التى كانت تحيط به من كل جانب، وهذه خطيئة كبرى، لأن التعليم من أهم عناصر الأمن القومى فى أى دولة، ومن هنا يمكن أن نفهم سر إصرار الرئيس عبد الفتاح السيسى على إصلاحه وتغيير منظومته، سواء قبل الجمهور أو رفض، فالأمن القومى لا يقبل المساومة.

لا يمكن أن ننكر أن ميزانية الدولة المصرية عبر تاريخ طويل ممتد تعانى عجزا، لم تفلح فى علاجه وهى ملكية أو جمهورية، لأسباب كثيرة يطول شرحها الآن، وبالقطع الزيادة السكانية المنفلتة من أهم أسبابها، فالأعداد تزيد مع ميزانية لا تستطيع أن تسد تكاليف هذه الزيادة، ولم تتمكن الحكومات من صناعة توافق جيد بين إمكاناتها وأولويات الانفاق، ويبدو أنها كانت ترتب تلك الأولويات حسب مفاهيم تقليدية للأمن القومى، وهو الأمن المباشر، بينما كان الأمن غير المباشرـ كالتعليم والصحة ـ يتأخر فى الترتيب، فينال ما تبقى من ميزانية مخرومة مقابل الأكل والشرب وتوفير السلع الأساسية، وأخيرا رضا المؤسسات المالية العالمية بشروطها فى القروض وسدادها، وهى شروط لا تتعامل مع الإنسان بقدر ما تتعامل مع الأرقام.

من هنا تسللت الفكرة الخبيثة إلى أدمغة صناع القرار، فليكن التعليم إحدى أدوات إراحة الناس، لا داع أن نبنى مدارس جديدة، وتعالوا نُشيد المبانى القبيحة على الأحواش والفراغات فى المدارس القديمة، وطبعا بلا معامل أو أماكن للأنشطة واكتساب المهارات فى تلك المساحات الضيقة، لا داع لامتحانات تقيس قدرات الطالب على المعرفة والتفكير، واجعلوها امتحانات فى مستوى الطالب المتوسط يادوب لو حافظ بضعة دروس فى كل منهج يمكن أن يجيب دون تفكير، وإذا مال إلى الغش تساهلوا معه ولا تتشددوا، وعند التصحيح لا تمسكوا له على الواحدة وامنحوه عطفا ورأفة، ولو غاب الطلاب عن المدارس تخففوا فى إجراءات المساءلة..هكذا عاش أولياء الامور سنوات كثيرة لعدة أجيال مع «نظام» صنع بنفسه هذه الخروقات فى جسده، واعتاد الناس عليها وأدمنوها..وفى الوقت نفسه هبط أداء المدرسين تدريجيا، سواء بسبب رداءة التعليم فى كليات التربية وغزو الجماعات الدينية لها، أو غياب التدريب وإعادة التأهيل الجاد المنتظم لهم.

وفجأة حل الدكتور طارق شوقى، وقفز إلى إصلاح منظومة التعليم دون أن يصلح بيئة التعليم، مثل أن تُشيد عقارا جيدا على أرض رخوة دون أن تعالج تربتها، قطعا لن يصمد البناء ولن تكف التربة عن إنتاج مشكلات قاصمة له. بالطبع أتفق معه أن الأزمة مجتمعية، لكن السؤال: أين البداية؟، من يقود من؟، من يفكر ويخطط ويضع استراتيجية يعالج بها بيئة التعليم فى المجتمع؟.

قطعا أول سطر فى الاستراتيجية أن تقود وزارة التعليم تصحيح عيوب أولياء الامور، لا أن يقود المجتمع الوزارة، تفعلها الوزارة بالتعاون مع وزارات: التنمية المحلية والثقافة والداخلية والشباب والرياضة وأجهزة الإعلام، ومؤسسات المجتمع المدنى، يعنى مشروعا متكاملا مدروسا بعناية وواقعية، لأن مصر الواقع تنوعت فيها الفوارق الاجتماعية والثقافية إلى حد بعيد، بسبب تعدد نظم التعليم وتفاوت الدخول وانتشار العقل السلفى وظهور تيارات متمردة على هذا العقل العائق لأى تقدم. يبقى التمويل، وهنا يجب أن يدخل المجتمع كله فى نقاش، عن كيفية توفير مصادر إضافية تسد العجز فى مخصصات التعليم الرسمية، فأى مشروع دون هذا التمويل يصعب أن يبلغ مراده وهو إنتاج مواطن جيد، كفء فى التفكير وفى أداء عمله.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
تعليق 1
  1. […] الكاتب الكبير نبيل عمر يكتب .. لا يا دكتور طارق نبيل عمر يكتب :ليس مجرد قلة أدب! […]

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق