الكاتب الكبير نبيل عمر يكتب :إعلام العقل الغوغائى له تاريخ

إعلام سيئ يحرض عمدا على الشقاق والتطاحن والتعصب والفتنة بين جماهير كرة القدم

1٬066

نبيل عمر

نعم هو إعلام سيئ يحرض عمدا على الشقاق والتطاحن والتعصب والفتنة بين جماهير كرة القدم، يفعلها وهو يبتسم ويستظرف ويضع قناع البراءة على وجهه، بل وصل الأمر إلى حد الدفاع عن السفالة والاحتفاء بها، وتبريرها بأنها مجرد رد فعل على تنمر وعنصرية، كما لو أنه يدعو إلى إحياء أخذ الحق باليد، يا ترى هل نقبل أخذ الثأر ونعتبره رد فعل أيضا ونحتفى بصاحبه لأنه من قبيلتنا أو عشيرتنا؟.

هذا إعلام عقل غوغائى، يفسد وعى مشاهديه بقيم الحق والخير والجمال، ويدهس معنى أن يكون الإنسان نجما فى الرياضة أو الفن أو الثقافة أو الشاشات الفضية، تَحكم تصرفاته العامة مجموعة من القواعد والمبادئ يلزم نفسه بها، مهما تعرض له الجمهور.

هذا فصل إضافى من إعلام تأسس قبل عشرين سنة تقريبا، فأنتج لنا حالة احتقان وتشنج وعصبية وتطرف، بين جماهير عاطفية بحكم طبيعتها الكروية، وبدلا من أن يهدئ من غليانها ويفرغ الدخان المحبوس فى صدورها حتى لا تنفجر فى وجوهنا، يُكايد ويُغيظ ويدخل طرفا فى لعبة الكراهية.

ألا يوجد تشابه بين هذه النوعية من المذيعين ودعاة الفضائيات إياهم الذين انحرفوا بقطاع عريض من المصريين إلى التعصب الدينى وكراهية الآخر وعدم السلام عليه أو تهنئته بعيده ..الخ؟ أليسوا نفس العقلية، نفس الخطاب، نفس الحركات والأداء، والاختلاف فقط أن القضايا الرياضية والاجتماعية والسياسية حلت محل الفتاوى الدينية؟

طبعا لا ننكر أن بعضا من هؤلاء المذيعين لهم شعبية وجمهور ووكالات إعلانية صانعة لهم، بالضبط مثلهم مثل الشيوخ والدعاة..لكنهم نقلوا قعدات المصطبة إلى شاشات الفضائيات، وهى قعدات اشتهر بها الريف المصرى قديما وانقرضت، وكان يلتف فيها القرويون مساءً حول كبير منهم أو واحد من أبناء القرية المتعلمين فى القاهرة، يسمعون منه أخبار المحروسة وما يجرى فيها من عجائب وأحداث وحكايات، ويظل نازلا فيهم كلاما ما أنزل الله به من سلطان، بعضه صحيح، وأغلبه انطباعات شخصية حسب ثقافته وأفكاره وفهمه لما رآه، والناس تصفق سعيدة بما تسمعه، خاصة إذا كانت تسمع ما يوافق هواها ويرطب قلبها أو يستفزها ويجنح بخيالها إلى مناطق ساخنة مثيرة للنميمة.

تعلموا مما فعله كثرة من الدعاة والشيوخ الباحثين عن جماهيرية عريضة، سواء فى الريف أو المدينة، وكان من أشهرهم الشيخ كشك فى أحاديثه كل جمعة، فمثلا يقول وهو ينتقد أم كلثوم: الست فى أرذل العمر واقتربت من القبر، تترك ذكر الله وحسابه وتغنى (خدنى فى حنانك خدني)، خَدِّك الموت يا شيخة، والنَّاس تتمايل من فرط الإعجاب وتتزاحم عليه، ثم توسعت الظاهرة بالفضائيات، وركب هؤلاء الدعاة على آذان الناس وعيونهم وعقولهم برواية الخزعبلات والشعبيات عن الدين ورسوله، بما يريح القلوب المهتاجة والنفوس الملتاعة التى لا تقرأ أو التى تتكاسل عن معرفة دينها بنفسها، فشاعت أفكار لا تمت للإسلام بصلة، ويظن كثير من الناس أنها حقائق دامغة، من يقترب منها بالتساؤل يصنفونه كافرا.وطبق هؤلاء المذيعون هذا النمط فى برامجهم وعلى القضايا التى يناقشونها، سواء كانت عامة أو رياضية. وإذا كان الدعاة بدأوا مع صعود التيار الدينى فإعلام المصطبة من زمن اللمبى.

لم تكن مصادفة أن يلمع أول مذيع فى إعلام المصطبة، مع سطوع شخصية اللمبى، واللمبى حالة عقلية أداها الممثل محمد سعد ببراعة فى عدة أفلام، نجاح ينسجم مع سيولة ثقافية وفكرية وسياسية سائدة فى المجتمع، ولم يكن جمهوره مثل جمهور أفلام المقاولات ونجمة الجماهير من الصنايعية والحرفيين، بل جمهور المولات الفاخرة التى لاحت فى الأفق، وأغلب روادها من صبية وشباب متعلمين فى المدارس الأجنبية. كان آباء وأمهات هؤلاء الصبية والشباب هم جمهور المصطبة، وقتها سألت بعضا من رجال الأعمال الذين يتابعون هذا المذيع بشغف: كيف مع هذا القدر من الغوغائية؟

ردوا: هو محمد سعد السياسة، طول النهار شغل وأرقام وتليفونات ووجع دماغ، نوع من التفريغ، كلامه ساخر ومضحك أكثر من سعد!.

لم تكن إجابة دقيقة..كان هذا المذيع ذكيا وخفيف الظل وعلى قدر معقول من الثقافة والفهم، وفتح ملفات شائكة كثيرة، ويثرثر فى مقدمة برنامجه لأكثر من نصف ساعة فى قضية عامة أو موضوع شخصى، ثرثرة على الكيف، تنزلق فيها الكلمات عفو الخاطر، محملة أحيانا أو دائما بألفاظ حراقة، وتشبيهات أقرب إلى إفيهات الممثلين الارتجالية فى المسرح الكوميدى تثير الخيال والفرفشة، ولا مانع من موضوعات حساسة بين الرجل والمرأة، لم تعتدها شاشات التليفزيون، وبالطبع حاز شعبية واسعة لم تقتصر على مصر فقط، وامتدت إلى البلاد العربية المحافظة جدا!.

كان المجتمع عموما ينحرف تدريجيا عن الذوق الشعبى الأصيل إلى ذوق شعبى فج، خاصة فى عالمى الفن والإعلام، فغزا مطربون شعبيون من هذا النوع الأخير أفراح الأغنياء وحفلاتهم الخاصة، وكلما زادت غوغائية أى عمل رقصا وتمثيلا وغناء وخطابا، كلما انتشر وعلت شعبيته إلى عنان السماء. وكالعادة، سار عدد من مقدمى البرامج على نهج المذيع وقلدوه وتخرجوا من مدرسته بحثا عن نجاحه، وصار بعضهم يخلط بين النقد والردح.

قطعا لا يمكن أن نصف برامج التوك شو كلها بأنها إعلام مصطبة، فهذا غير صحيح على الإطلاق، فهناك من يحترمون المشاهد ويخاطبون عقله ويرتقون بذوقه، لكنهم ليسوا بالكثرة التى تصنع تيارا عاما يصد إعلام المصطبة. المشكلة أن الإعلام رافعة مهمة فى تنمية أى مجتمعٍ بالمعرفة والوعى والتفكير العلمى المنظم، إذا كان ينشد دولة حديثة ويبنى جمهورية جديدة، وانحرافه إلى الغوغائية خطر كامن كالسرطان، وقطعا لا نطلب منه دروسا فى الوعظ والإرشاد، فالجاذبية والمتعة والإثارة ضرورة، لكن دون ابتذال وترخّص ودفاع عن السفالة.

Visited 9 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه