بقلم: أ.د/ جودة مبروك محمد
+وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” سورة الأعراف:204
ماذا يعني الاستماع؟ وهل يفترق عن السمع؟ وهل ذكر الإنصات إضافة معنوية جديدة؟ لكن النتيجة لكل منهما الرحمة من عند الله، وما أعظمها.
حلقات من النقاش المجتمعي تحضرها كل يوم، والأصدقاء يتجادلون فيما بينهم، وقد تعلو أصواتهم، وترتفع الحناجر، ويبلغ الجدال حدود اللياقة، ولا ينماز كلام أحد عن الآخر، وكل في اعتقاده أنه أتى بصيدٍ ثمين وبأصدق رأي، وتارةً أخرى يظهر رجل يوهمك أنه على صلة بأصحاب القرار العلويّ، وله علاقاته بكل الجهات، ويعرف ما يدور في المكاتب المغلقة، والمكالمات الأخص في السرية، وقد أوتِيَ قدرة عجيبة على أن يقنعك بصدق زعمه … وإذا بجوهر الحديث يتفرع من موضوع إلى آخر…فتارة عن غلاء الأسعار ، وتارة عن هزيمة فريق… في كرة القدم وثالثة عن مستقبل التعليم ورابعة عن جبل الحلال، وخامسة عن قطر والإرهاب وسادسة عن الأدوية واستخداماتها… وبعد نهاية الجلسة تشعر أنك تجلس في مجتمع يعرف كل شيء، فهم سياسيون مخضرمون، ورجال اقتصاد وفن، وأطباء ومكتشفون، وجنرالات يضغون خطط المعارك العربية، ولديهم العلم اللادني، ويبدو أن بعضهم قد اطلع الغيب أو به جنة. ، وما هذا وذاك إلا ثرثرة لا تفيد، بل تأخذ منا أوقاتنا وتزاحمنا بأكاذيب وأمراض نفسية.
كانت محاولات الإقناع جميعها فاشلة، فلم يأخذ أحد من الآخر شيئًا، ولم يترك أثرًا، وانتهت محاور النقاش بلا جدوى؛ وكثر المتحدثون وقل المستمعون، أو قل: كثر الغيث وقلَّ السمين، وما أكثر ذلك على صفحات التواصل الاجتماعي، كلام كلام كلام بدون فائدة، ومواعظ وحكم بدون وعَّاظ أو حُكَماء في الحقيقة … إنه أمر يعود بنا إلى أهمية أن يستمع أحدنا إلى الآخر، فكيف… وماذا… ولماذا… نستمع؟
لعل الباحثين في أصول التربية ومهارات التلقي اللغوي يعرفون أن الاستماع مهارة مهمة من مهارات التعلم ، وطريقة مهمة من طرق التواصل الفعال بين أفراد المجتمع، ونذكر حكمة الله في خلقه، فهاتان أذنانِ من ناحيتين مختلفتين حتى نسمع الأصوات الناتجة في بشكل دائريٍّ محيطيٍّ، على حين أن لساننا من جهة الأمام، إنها حكمة الخالق عزَّ وجلَّ، في أن نسمع أكثر مما نتكلم، بل بمقدورنا أن نسمع الأصوات من جميع الاتجاهات في حلقات دائرية، على حين لا نتكلم إلا إلى جهة واحدةٍ هي الأمامية.
السمع والاستماع : الأول هو عملية عضوية بالأذن فقط، وهو حاسة من الحواس الخمسة، وأداتها ووسيلتها الأذن، وهي تأخذ شكل الطبق الذي يجمع الموجات الصوتية، فيتلخص في كونه عملية فسيولوجية تتطلب سلامة الأذن والأعضاء المتصلة بها، ولكنه أحد عناصر الاستماع فحسب، أما الاستماع فهو فهم الكلام والانتباه إلى المسموعات، وبعبارة أخرى هو تلقي الأصوات بقصدٍ وإرادةٍ بالفهم والتحليل ، ويُعَرَّفُ على أنه ((عمليةٌ عقليةٌ تتطلَّبُ جهدًا يبذله المستمع في متابعته المتكلم وفهمِ ما يقوله واختزان أفكاره واسترجاعها إذا لزم الأمر، وإجراء ربط بين الأفكار المتعددة))، أو ما يمكن أن يُطلَق عليه في علوم التقنيات والذكاء الاصطناعي معالجة المعلومات، ففي هذه العملية نَسْتَمِدُّ المعلومات والمعارف والتجارب، أو قل: هو عملية استقبال الرسائل الكلامية وغير الكلامية وتكوين معنًى واستجابة لهذه الرسائل، ويتطلب -على ما سنعرف- من السامع انتباهًا وتركيزًا مع سلامة أعضاء السمع.
والفرق بين السمع والاستماع، أن الأول يتمُّ بدون جهدٍ وعناءٍ، فتستقبل الأذن الأصوات دون إرادةٍ، أما الاستماع فيتطلب جهدًا وإرادةً، فهو مهارة وفنٌّ، فقد يسمع الفردُ لكنه لا يستمع، وفرق بين الحالين السمع والاستماع، كما أن المستمعين أنفسَهُمْ ليسوا بدرجةٍ واحدةٍ، فالاستماع عمليَّاتٌ مركبّةٌ، تبدأ بالسمع في استقبال الأصوات وتمييزها في إطار كلمات، وفي شكل جمل من خلال البنية الإدراكية للمخ في تخزينه للقواعد العامة للغة، وهو مقسَّمٌ على أربعة أقسام باعتبار المتلقِّي:
- غير المستمع: وهو قد يسمع ولكنه لا يستمع، كما نسمع لغةً أجنبية لا نعرفها.
- المستمع جزئيًّا : الذي يسمع بدون تركيز، فلا يحيط بجوانب الحديث.
- المستمع المقوِّم: الذي يصل إلى فهم دون إدراكه لنية المتحدث وأهدافه.
- المستمع النشط الفعَّال: الذي يدرك ما وراء الكلمات وظلال الجمل من أحاسيس وأهداف.
ويوجد فارق بين الاستماع والإصغاء في الآية الكريمة، فاستخدام القرآن لها دليلٌ على أن الثانية أضافت دلالة زائدة على الثانية، فالإنصات نوعٌ أعلى في الاستماع، تتوافر فيه النية والقصد مع الرغبة الشديدة في تحصيل المنْصِتِ إليه، فالفرق بينهما في الدرجة وليس الأداء، إضافةً إلى العامل النفسي المحبب للإنصات، والإنصات أخصُّ من الاستماع من جهة أن المنصت يكون حاضرًا مستحضرًا قلبه تاركًا كلَّ ما يشغله عن الإنصات، أما الاستماع فلا يشترط ذلك، كما في قوله تعالى: +إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى” سورة الإسراء: 47.
ويهدف الاستماع كما ذكرنا إلى اكتساب المعلومات والتجارب وفهمها وتفسيرها واستيعابها وتقويمها وتذكُّرها، فالتفسير يعني تحويل الكلمات إلى معانٍ وأفكار، والاستيعاب هو القدرة على التركيز على المضمون ، والتقويم هو: التمييز بين الحقائق والآراء الشخصية، والتذكُّر: إمكانية استرداد المعلومات.
إن الاستماع عند علماء العربية يشكل فارقًا كبيرًا في درجة التعلُّم وبلوغ الغاية من الحكمة، يقول أحد القدماء: ((تعلَّمْ حسن الاستماع قبل أن تتعلَّمَ حسن الكلام، فإنك أحوج إلى الاستماع أكثر من حاجتك إلى الكلام)).
والاستماع له مكوِّنان رئيسان لا فصل بينهما: الأول: البعد الفسيولوجي: ويتمثل في قدرة الأذن على الاستجابة للموجات الصوتية وترجمتها عن طريق الجهاز العصبي إلى إشارات يفهمها المخ ويستوعبها، والثاني: البعد العقليُّ، ويتكوَّنُ من أربعة مكونات عقلية مترابطة، وهي: فهم المعنى الإجمالي للرموز الصوتية المنطوقة، وتفسير الكلام والتفاعل معه، والتقويم والنقد، وربط المضمون بالخبرات الشخصية، والتذكر والاسترجاع.
ويحرص الكثيرون على تنمية الاستماع بمجموعة من الوسائل مثل: التعرُّف على أغراض المتكلم، وتمييز الأفكار الرئيسة، وإدراك التفاصيل، واستخلاص النتائج، وتلخيص ما استمع إليه، وتعيين الواقع من الخيال، وفحص العناصر الأساسية في الموضوع، والتذوق والابتكار فيما يستخلص من مادة الاستماع.
لكن تبقى معوقات وصَّفها العلماء للاستماع الفعال في أربع نقاط: الأولى ما يخص المتحدث، ومنها ضَعْف القدرة على الإقناع، والإسهاب في الكلام، وثبات نبرة الصوت، واستخدام لغة غير مفهومة، والثانية ما يخص المستمع: مقاطعة المتحدث، وعدم الاستماع حال الاختلاف، والانشغال بتقييم المتحدث ومظهره بدلاً من الرسالة، ومعقوات نفسية مثل الملل والتشتت وعدم التحمل، والثالثة: معوقات تخص الرسالة، وهي: سطحية الموضوع، وكثرة التفاصيل، وكثرة المصطلحات غير المفهومة، وعدم ملاءمة الموضوع لثقافة المستمع، وغموض الرسالة، وفقدن هدفها، والرابعة: تخص البيئة، وأهمها التشويش، وعدم مناسبة المكان والزمان.
واشتهرت قواعد عشر للاستماع الجيد هي:
- الاهتمام بالمحتوى أكثر من المتحدث.
- تدريب العقل على التركيز.
- الإحساس بالمشاعر والأحاسيس المصاحبة للكامت.
- عدم مقاطعة المتحدث.
- ضبط النفس وعدم التشويش على المتحدث.
- تشجيع المتحدث على الكلام وإشعاره بأهمية كلامه.
- التوافق مع الحالة النفسية للمتحدث، والتواصل معه.
- طرح الأسئلة في الأوقات المناسبة لتوجيه الحديث أو للاستيضاح.
- ضبط النفس حال وجود خلافٍ أو تعارض في الرأي.
- وضع المستمع نفسه في مكان المتحدث.
من كل ما سبق فإن الاستماع فنٌّ ومسؤولية.
إننا لكي نمنح أفراد المجتمع الثقة بالذات، خاصة الجيل الصاعد، علينا أن نحسن الاستماع إليهم، ليس هذا من باب التفضل ، بل لأنهم يستحقون منا أن نعلمهم المواجهة ونمنحهم الفرصة حتى يكونوا شخصيتهم المتوازنة، ويصبحوا يومًا ما بناةَ حضارة وقوام مجتمع سليم.
اقرأ للكاتب
الجامعاتُ الأهلية وعودةٌ إلى التقدم والريادة
[…] اقرأ للكاتب عندما يصبح الاستماع فنًّا ومسؤوليَّةً… […]