كتب محمد غنيمة
بعد انتصار حرب أكتوبر المجيدة أطلق جمال حمدان كتابه 6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، هذا الكتاب المختلف الذي قام فيه بعرض منهجي علمي “لا إعلامي” بقدر الإمكان ومسح عام ولكنه شامل في حدود الممكن والمتاح، لتلك المعركة المجيدة، لا يضعها هي وحدها فقط في البؤرة وتحت المجهر، وإنما كذلك يضع الصراع المصيري كله في إطارها- بعبارة أخرى – قام برصد القضية نفسها وبأسرها من خلال منظور المعركة ومنظارها، كأنها المنشور الذي تمر منه كل أشعتها وخيوطها لتنصب في حزمة ضوئية واحدة نهائية أو تتحلل إلى عواملها وطيوفها الأولية .المطلوب هو ألا نحلل خيوط هذه المعركة وكفى، وإنما كذلك أن ننسجها في شبكة الصراع كله”
يعد هذا الكتاب من الدراسات الاستراتيجية ذات العيار الثقيل الذي يدخل ضمن الدراسات الجيواستراتيجية؛ فقد تميزت ببناء علمي محكم وبتحليلات إحصائية دقيقة إلى حد بعيد؛ وتدفقت لغة هذا الكتاب بشكل سلس ومعبر وخال تمامًا من الاضطراب، وخرج لنا بدراسة تقييمية شاملة لمحيط معركة أكتوبر بكل أبعادها وفي أوسع أطرها وذلك ابتداء من تطوراتها الموضعية الميدانية إلى موقعها من الاستراتيجية العالمية برمتها، مرورا بكل أصدائها وانعكاساتها العسكرية والسياسية وكذلك نتائجها واحتمالاتها الجيوبولتيكية.
يضم الكتاب إحدى عشر بابا مختلفا يرصد في كل بابا أحد الجوانب والأطر الواسعة والضيقة لحرب أكتوبر فبدأ في بابه الأول بــــ” قدس الأقداس” وهنا جسد عاشق المكان أهمية سيناء وموقعها وكونها المكان التي دارت عليه هذه الملحمة وكموضع لأحداث خطيرة ومهمة على مدى العصور، سواء للمصريين أو للعالم أجمع، بحكم التحامها
كحلقة وصل بين مصر الإفريقية وقارة آسيا كلها. كما يعرض المعلومات الإحصائية حول البشر على أرضها وطبيعتها الديموغرافية، كما قام حمدان بالتركيز في الفصل على شبكة سيناء الاستراتيجية ومحاور وخطوط دفاعها التي تحدد معالمها كمسرح قتال وترسم الهيكل القاعدي في جغرافيتها العسكرية ثم يخرج لنا بمصلح جديد ومعنى سيناء في الوجود المصري ومستقبل الوجود في سيناء ، ثم يأتي الفصل الثاني وما بعده يدور حول المعركة : مقدماتها وخططها ، ثم مراحلها العسكرية البارزة ابتداء من العبور التاريخي إلى اقتحام خط العدو فتحرير القاعدة الأرضية العريضة في غرب سيناء وأخيرا عملية التسلل أو الثغرة وتأكيدا لوحدة المعركة على الجبهتين المصرية والسورية ، ثم يستكمل العرض مباشرة ودون انقطاع بتحليل مركز المعركة السورية ، فيحدد المسرح الطبيعي ثم تطورات المعركة ومن ثم مراحلها الأخرى .
ثم يأتي الفصل السادس الذي عنون تحت اسم ” السادس من أكتوبر في الاستراتيجية العسكرية” وهنا يستعرض حمدان أهمية معركة أكتوبر وخطتها واستراتيجيتها ، فيحاول الفصل أن يحدد لأصالة معركة أكتوبر وأوجه تفردها وريادتها
ثم يشخص مقوماتها وملامح الأساسية وذلك في ” السلاح وأنواعه ونوعيته واستخدامه، ثم يدخل في القوة البشرية أو (العامل البشرى) الذي هو أهم العوامل المؤثرة في تلك الملحمة الخالدة، من الزمن والطبيعة والتكنولوجيا، فقد حقق العرب نصرهم بفضل العامل البشرى أساساً، كماً وكيفاً، واستكمالا للموضوع قام حمدان بدراسة مقارنة للسادس من أكتوبر في الاستراتيجية الإقليمية فعقد مقارنة بين حرب أكتوبر وحرب الهند- باكستان ، أخر حرب محلية سبقت أكتوبر أو قربها شبها وذلك على كثير من النواحي العسكرية والسياسية بل والتصارع العام ، ثم مضى إلى مقارنة أكثر تفصيلا بين معركة أكتوبر ونقضيها معركة يونيو.
ثم يأتي فصل بنفس عنوان الكتاب ” 6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية” وهنا يتنقل حمدان من الضيق إلى الواسع، من الإطار المحلي إلى العالمي فيقول” فأصداء 6 أكتوبر وأضواؤه، اشعاعاته وانعكاساته، تملا الدنيا وتلف الكرة الأرضية وتتردد في كل أرجائها لا أقل إنها ليست مجرد حدث عسكري مدو أو فرقعة محلية مبهرة، علينا إذن أن “نركب”
المعركة في منحنيات الاستراتيجية العالمية وفي معادلة القوة الدولية.
وضع حمدان فصل عن العرب والمعركة فجاب فيه عن تأثيرات يونيو السياسية وطنيا وقوميا ودوليا، ثم الانقلاب الذي أحدثه 6 أكتوبر في دنيا العرب على المستويات الثلاثة نفسها، مغزاه، مداه، مستقبله ومستقبلهم. ولما كانت معركة أكتوبر على وجهها الأخر هي معركة بترول فقد أفرد فصلا كاملا عن حرب البترول وتطوراتها وإبعاداها ووقعها على العالم.
وبما أن حمدان قد أفرد فصلا عن العرب والمعركة فوضع فصلا عن العدو والمعركة، فبدأ بطرح موقف العدو المتغطرس والمفتون قبل أكتوبر، وخططه ومشاريعه ونواياه وتصريحاته وعربدته واعتدائه، حتى انقلبت الصورة بعد حرب أكتوبر وأصبحت الأمر مختلف أمام المرآه.
وفي نهاية الكتاب أفرد حمدان فصلا من أهم الفصول التي تبحث في دراسة الخطط المستقبلية فقد طرح مجموعة من الأسئلة أهمها متى وهل ينسحب العدو من الأراضي العربية
المحتلة، أهو الحل السياسي أم الحل العسكري مستقبلا، ما معامل الأمل واليأس في عودة فلسطين وحول هذه الأسئلة وغيرها يدور الفصل الأول منها على القريب والثاني على البعيد وفي الحالتين تبرز أهمية حرب أكتوبر كحجر الزاوية والأساس في هذه الخطط المستقبلية.
هذا الكتاب هو كتاب معركة أكتوبر كما ينغي أن يكون وكما يقرأه المواطن الذكي والقارئ العصري المثقف، وهو عمل فكرى يستوعب كل التفاصيل، وهذا ما عهدناه على جمال حمدان عاشق مصر، وفيلسوف المكان.
التعليقات متوقفه