كتب – نبيل عمر
لا يستسيغ عاقل ما تنشره صحف ومواقع من آن لآخر عن خلافات طاحنة داخل جماعة الإخوان ، ولا يمكن أن نرتاح إليه أو نفهم منه أن الجماعة قد سكن فيها فيروسات التشرذم والتفكك، وأن الفارين من أحضانها يتكاثرون يوما بعد يوم، سواء من عدم قدرتهم علي مواجهة المطاردة لهم أمنيا واجتماعيا، أو بعد اكتشافهم مدي تناقض الأفكار التي اعتنقوها وزيف الأشخاص الذين كانوا يمشون خلفهم كالعميان، وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن تصبح الجماعة مجرد لافتة باهتة وبضعة مئات من الدراويش وحكايات تاريخية، وأظن هذه الأخبار أقرب إلي المسكنات الخطيرة التي لها تأثير المخدرات، قد يتسلل منها نوع من الكسل إلي المجتمع فيقل حرصه ويهبط حماسه في حماية نفسه منهم، مع أن قول أمير الشعراء أحمد شوقي ينطبق عليها، في قصيدته ذائعة الصيت التي مطلعها: برز الثعلب يوما في ثياب الواعظينا، ومشي في الأرض يهذي ويسب الماكرينا.
هذا النوع من الأخبار التي أتصور أنها تتسرب عمدا وبتخطيط كل فترة تغفل بديهيات تاريخية، تشبه حقائق الطبيعة كدوران الأرض حول الشمس أو تجمد المياه في القطب الشمالي شتاء، أو افتراس الأسد الجائع لصاحبه إذا أوجعه الجوع.
الإخوان جماعة صماء، كتلة جامدة مغلفة بالفولاذ غير قابلة للتغيير أو التطور، تشكلت وتحركت ونمت خارج النظام العام للمجتمع المصري، وبعيدا عن أطره القانونية التي ارتضاها وأسس بها دولته الحديثة، لأن مؤسس الجماعة كان يدرك من اللحظة الأولي أن صدامها مع المجتمع من أجل السلطة قادم لا محالة، ويجب أن تحتفظ بأسرارها وخباياها في جب عميق لا يتبادله إلا كبارها، ويمكن أن تنزل بعض هذه الخبايا إلي المستويات الأقل من التنظيم في حدود وللضرورة، وكان طبيعيا أن يكون لها قانونها الخاص في العضوية والتمويل والنشاط والعلاقات الخارجية كما لو كانت إمارة كونفيدرالية تتمتع باستقلال ذاتي داخل الدولة، وليست مجرد جمعية أهلية مثلها مثل عشرات الجمعيات العاملة في مصر، وأتصور أن أي كلام عن خلافات بين حرس قديم وحرس جديد، حول الدعوة الدينية والالتزام السياسي هو مجرد ستارة دخان، حتي لو كان لها بعض الوجود الملموس علي أرض الواقع، فهو خلاف محسوم لمصلحة الأفكار القديمة كما حدث عبر تاريخها كله.
لم يكن الجانب الدعوي والتربوي في الإخوان إلا القناع المزركش إلي قلوب الناس وأبعاد السلطة والمطاردة عنهم في أوقات الشدة.. ولم يحدث في تاريخ الجماعة أن راجعت نفسها، أو حتي وقفت ونظرت حولها وتأملت واقعها وطرحت بعض التساؤلات علي مواقفها وأفكارها وتصرفاتها العامة، ولو دون أن تجيب عليها، لم تفعل ذلك وهي تعيش أياما عادية، من باب تجديد التفكير، ولا وهي تمر بمحن صعبة كادت تهشم عظامها في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وصعوبة المراجعة أو استحالتها سببها أن الجماعة لا تعترف علي الإطلاق بأي خطايا كبري ارتكبتها، وتعامل نفسها كما لو أنها معصومة وقياداتها امتداد لصحابة رسول الله، لا يأتيها الباطل علي أي نحو، وأن المصادمات المتكررة مع الدولة المصرية مجرد بلاء واختبار من السماء، يمتحن فيها الله قدرة الجماعة علي التمسك بالعروة الوثقي، والصبر علي المكاره من أجل الدعوة، وتدريب أعضائها علي الجهاد في سبيل الله.. فكيف يتسرب شك لمن يؤمن بأن الله يظلله ويعصمه فيما يفعل، فيراجع نفسه؟
وقد عرفت شخصيا في الماضي عددا من أفراد الجماعة، كنا نتقابل اجتماعيا أحيانا، تحاورت معهم وناقشت أفكارهم، بعضهم تعلم في لندن علما عصريا، بعضهم سافر ورحل وجاب الدول وعاد، بعضهم شديد الطيبة والوداعة وحسن الخلق، وبعضهم وصل إلي مراتب متقدمة في الجماعة وفي المجتمع، لكن كان يجمعهم خيط غليظ واضح، أن الجماعة مهمة مقدسة كما لو أنها نبوة خاصة، وولاتها جاءوا في زمن مختلف للحفاظ علي الدين وصحيح الإسلام، لا يخطئون ولا يصيبهم الزلل، وهذا شديد الوضوح من رسالة منشورة علي مواقعهم: الله يمتحن صبرنا وإيماننا وثقتنا فيه وفي وعده وعهده بنصرة المؤمنين وبنصرة المظلوم وبنصرة دماء الشهداء. أصبروا علي ما أنتم فيه واحمدوا الله علي وقوفكم إلي جانب الحق ودفاعكم عنه فهي نعمة الآن تستوجب منا الشكر لله..أبشروا فالنصر قادم.
باختصار الجماعة لها خريطة جينية، مهما كان الخلاف المزعوم بين حرس قديم وحرس جديد، خريطة تتوارثها الأجيال بكل سماتها التفصيلية، وقد يحدث بحكم التطور والعصر أن تكتسب الأجيال الأصغر بعض الصفات الجديدة، لكن علي حدود الجينيوم الخارجية، ولا يمس قلب المفاعل الذي يحركها، أي تنحصر الصفات الجديدة في الأساليب والأدوات دون الأعمدة الأساسية والحوائط الحاملة، لأن الجماعة لها حبل سري يربطها بالحياة، أسباب جوهرية عمل عليها حسن البنا والذين معه، وكانت الدعوة مجرد تكئة إلي هدف إستراتيجي، تكئة من عنصرين، الأول: جسر تعبوي إلي السلطة، والثاني: حصالة تجمع فيها التأييد الشعبي تفتحها في اللحظة المناسبة كما حدث في 25 يناير 2011.
ولأن الجماعة كتلة دينية مصمتة فهي تشبه الكائنات المنقرضة التي فشلت في التأقلم مع الطبيعة، فظلت تنكمش وتتقلص حتي اختفت تماما أو أخذت شكلا وصفات ونمط وجود لا علاقة له بالأصل، وانقطعت عنه انقطاعا حيويا كاملا، وهو نفس المصير الذي ينتظر الجماعة، ولكن ليس الآن ولا غدا ولا بعد عشر سنوات، فعملية الانقراض لعدم التأقلم تستغرق زمنا طويلا، مثلما حدث لجماعات مغلقة قبلها مثل الخوارج والقرامطة والحشاشين، وهذا مصير أي جماعة دينية مغلقة أيا كانت ديانتها، وعدم التأقلم مع مجتمعها راجع إلي وهم شائع من قديم الزمان، أنها تصنع نوعا من النقاء الديني لأعضائها بعيدا عن بقية أفكار المجتمع، فاختلاط الأفكار يفسد فهمهم الخاص للدين، وقد يصيب ترابط أفرادها ونمط التقاليد والسلوكيات التي درجوا عليها.
باختصار دوام عزل أعضاء الجماعة اجتماعيا لمن لم يمارسوا عنفا واضحا، وأمنيا لمن يلجئون للعنف يسرع من عملية الانقراض.
اقرأ للكاتب :القرآن ومأزق الفهم المجتزئ
[…] لمزيد من مقالات نبيـل عمــر الإخوان وخدعة الخلافات الداخلية […]