القرآن ومأزق الفهم المجتزئ

843

نـبـيـل عــمـــر

للفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي كتاب غير ذائع الصيت، لا يتصور كثير من مريديه ومحبيه ومتابعيه وجوده، هو “دفاع عن القرآن ضد منتقديه”، ربما لأن موضوعه خارج على إنتاجه الفكري الغزير الذي تجاوز مئة وخمسين كتابا، ما بين تأليف وترجمه وتحقيق، أغلبها عن الفلسفة الوجودية التى تأثر بها واشتهر باعتناقها، وثمة مفهوم خاطئ يربط بين الوجودية وجانبها الإلحادي ، ويغفل جانبها الآخر الديني.

وكتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي ليس مجرد كتاب في نقد الذين هاجموا القرآن وتفنيد ما قالوه، إنما هو منهج في شرح وتفسير معان تضيف للفكر الديني أبعادا قد لا يلتفت إليها المسلمون التقليديون الذين ينقلون عن السلف نقل مسطرة دون تمحيص أو إعمال فكر، فتأتي تفسيراتهم بعيدة عن مفاهيم أكثر رحابة وإنسانية.

وإذا اتبعنا منهج الدكتور بدوي في قراءة القرآن، قد لا نجد ما يتصوره البعض إجحافا  بحقوق الإنسان خاصة المرأة والإنسان المخالف في الدين، وهو تصور شائع حتى بين مسلمين.

ويضرب البعض بنص الآية ٣٤ من سورة النساء مثالا: ” واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وأهجروهن في المضاجع  واضربوهن”، ويتساءلون: لماذا يسمح القرآن بضرب النساء اللائي يفترض أن لهن حقوق الرجال ولسن إماء أو سبايا، لاسيما أن التطور الحقوقي للإنسان ألغى الرق والعبودية؟، وكيف يحافظ الإسلام في كتابه المقدس على مكانة للمرأة أدنى من الرجل، بإباحة اللطم لهن والقسوة البدنية في معاملتهن؟

وفي الحقيقة لو تمعنا في معنى فعل “ضرب” في قواميس اللغة، وليس في المعني الشعبي الشائع، لوجدنا له تسعة وعشرين وجها، حسب سياقه في الجملة الوارد بها، مثل تحرك واشتد، وأصاب، وسلط، وقشر، وغلب، وألقى، ولدغ، وقتل، وأهمل ، وبَعَدَ..الخ.

فلماذا نتوقف كما توقف السلف عند معنى وحيد وهو أصاب وصدم، ولماذا لا نمد المعني الموجود في الآية على استقامته ” وأهجروهن واضربوهن، أي “أعرضن وأبعدن عنهن كليا إهمالا لهن “، وطبعا في حالة الشقاق الشديد الذي تقترب فيه النساء من النشوز، وهو نفس الحق الممنوح للمرأة بأن تهجر زوجها وتطلب الخلع منه كرها له إذا أحست باستحالة العشرة بينهما، فهل هذا الحق إهانة للرجل؟.

ويأمر الله الرجال في أكثر من آية بالمعروف والخير في معاشرة النساء أو تسريحهن بإحسان.

والسيرة النبوية بها من الوقائع والتصرفات والسلوكيات ما يؤكد هذه المعاني وتضرب لنا نموذجا لما أمرنا الله به في كيفية معاملة الرجال للنساء، حتى في حالات الغضب، وتبين مدي مكانة المرأة الاجتماعية في الإسلام.

أما قوامة الرجال على النساء فلها شرط في غاية الأهمية، بما أنفقوا، والإنفاق هنا ليس بمعني الصرف وتغطية التكاليف فحسب، وإنما بما “أدوا” من مهام ووظائف وأدوار تفاضلية، والقوامة لها مستويات متعددة في المجتمع، رجال على رجال، ورجال على نساء، ونساء على نساء، ونساء على رجال حسب تلك الوظائف.

أما القوامة في الأسرة، فلا يجوز لها تَعَدْد ولا استبداد، وقوامة الرجل فيها تستند إلى كونه المسئول عن أسرته وراعيها، لكن لا يوجد نص يتيح فرض السيطرة والقبضة الحديدية من الرجال على النساء، والتفسيرات الشائعة هي مجرد آراء مرتبطة بتقاليد مجتمعية ولا ترتبط بأحكام نصية.

أما حكاية الميراث، فالقرآن حدد ست عشرة حالة ميراث، حالتان فقط يرث فيهما الذكر مثل حظ الانثيين،  الأب الذي ترك أبناء وبنات، والأخت ـ دون أبناء وزوج ـ التي تركت ميراثا لأخوة من الرجال والنساء، وأيضا توجد حالات ترث فيه النساء أكثر من الرجال دون الدخول في تفاصيل كثيرة، ولو كان الأمر مجرد ذكورة وأنوثة فقط لثبت معيار الميراث في كل الحالات، والمعيار الأقرب للاتساق  مع مفاهيم القرآن الكلية عن الأسرة وترتيب أوضاعها هو ” وظيفة المال في الأسرة”، وليس الفروق البيولوجية.

والشهادة النصفية  في القضاءء مرهونة بمضمون الشهادة وليست مطلقة، وهي تشبه الشروط والإجراءات التي توضع وفق وظائف وأدوار الإنسان في المجتمع ولا تعني مطلقا التقليل من قيمته الإنسانية، أي هناك قيمة وظيفية يتفاوت فيها الإنسان  ولا يتساوى فيها البشر ، وقيمة إنسانية يتساوى فيها البشر جميعا، ولا يوجد نص يفاضل إنسانيا بينهم على أساس الجنس والعرق واللغة والثروة، والمفاضلة فقط بالتقوى التي يحكم فيها الله وحده دون شريك.

ثم نأتي إلى آيات القتال التي تثير جدلا لا يتوقف، والجدل سببه هو إخراج الآيات عن سياقها ونزعها عن المفاهيم الكلية للقرآن..

وثمة مفهوم عام يؤكده الله عبر القرآن كله، “إن الله لا يحب المعتدين”، وذكرها الله مُعَرَّفَةً، ودون أن يحدد ماهية المعتدى عليهم وصفاتهم جنسا ولونا ودينا ومكانة.

أي أن أمر القتال مشروط برد العدوان وليس بشن عدوان ويقول النص المتكامل، سورة البقرة من الآية 190 إلى 193 : ” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا أن الله لا يحب المعتدين،واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فأن الله غفور رحيم”.

النص واضح وجلي المعني أمرا ونهيا، وبالرغم من صفة الكفر التي ألصقها الله بالمعتدين، فهو يأمر بالعفو عنهم إذا انتهوا عن عدوانهم، ولم يحرض على مطاردتهم، أي ليس المقصد هو قتال الكافرين أو المخالفين في الدين في أي وقت وتحت أي ظرف.

وعموما آيات القتال محدودة للغاية ، وقد وردت كلمة قتال في  خمس وعشرين آيه من ستة آلاف ومئتين وستا وثلاثين آية في كتاب الله، أي أقل من نصف في الآلف، ولا يمكن مقارنتها بآيات السلم والتسامح والعفو، لأن المسافة العددية بينهما شاسعة جدا.

باختصار  أن قراءة القرآن آية آية أو سورة سورة بعيدا عن المفاهيم الكلية للقرآن أو الاستدلال بالسنة النبوية دون الرجوع إلى هذه المفاهيم القرآنية، يمكن أن تصل بنا إلى تفسيرات غير منصفة وربما غير صحيحة، وللأسف كثير من الأقدمين وقعوا في هذا الفخ، ومازال يقع فيه أخرون.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
تعليق 1
  1. […] اقرأ للكاتب :القرآن ومأزق الفهم المجتزئ […]

التعليقات متوقفه