المناص وسيميائية العناوين في رواية “كل من عليها خان”

865

دراسة نقدية بقلم – د. أمل درويش

يشكل المناص (paratexte) أو ما يطلق عليه النص الموازي أهمية بالغة إذ يُعد واحدًا من أهم مكونات العمل الروائي إذ يقدم تمهيدًا لفضاء النص، من خلال بعض الأدوات التي تساعد في فك شفرات النص وتوضيح معالم السرد.

ومن أهم هذه العلامات الفضاء المادي (Peritexte) النص المحيط وهو ما يشكل العنوان، الملاحظات، الإهداء، التقديم، الاستشهاد، كلمة الناشر..ومن كلمات الكاتب السيد حافظ نلتقط أطراف الحروف لنفكك ونحلل أفكار هذه الرواية التي طرحها في هيئة عناوين مقترحة استهل بها مقدمة روايته.

اختلفت الآراء حول علم العنونة (العنوانيات) هذا العلم الذي أسسه لوي هويك ولكن اتفقت كل الآراء على أهميته في التأثير على القارئ والجمهور بصفة عامة. وقد عُرف العنوان بأنه هو الكتلة المطبوعة على صفحة العنوان ثم وصف بأنه مجموعة العلامات اللسانية من كلمات وجمل ونصوص تظهر على رأس النص، حتى استقر ج. جينيت على تقسيمه إلى العنوان الرئيسي والعنوان الفرعي.  من هذه الكلمات نبدأ رحلتنا مع رواية “كل من عليها خان” التي حملت سبعة عناوين مختلفة لكل منها دلالاته السيميائية التي ضمّنها الكاتب داخل فصول الرواية إما بالتصريح أو بالتلميح وسوف نبحر مع الكاتب من خلال الأحداث لنستكشف معًا دلالاتها السيمولوجية؛ فبعدما طرح الكاتب عناوين الرواية السبعة المقترحة بدأ في تعريف الرواية من وجهة نظره الشخصية فنراه يعرفها كالآتي: (الرواية هي سرد والسرد يعني التاريخ، والحكاية والزمن الإنساني واللغة الحية التي تمتلك الدهشة الشاعرية، وإذا أردت أن تكتب سردًا اكتب شعرًا.. وإذا نقُص ضلع من هذه القواعد لن تكون رواية بل حكاية ضعيفة.)

ومن كلمات الكاتب السيد حافظ نلتقط أطراف الحروف لنفكك ونحلل أفكار هذه الرواية التي طرحها في هيئة عناوين مقترحة استهل بها مقدمة روايته.

  • العنوان الأول: كل من عليها خان.

وهو العنوان الذي استقر عليه الكاتب ليحمل على عاتقه غلاف الرواية ويُضمِّن بداخله بقية العناوين ويكتنز الأحداث والتفاصيل. نستطيع هنا منذ العتبة الأولى للنص وهي العنوان أن نتفهم ما سيرد في النص من خيانات، وإذا ما بدأنا بتحليل العنوان لغويًا نجد أن كلمة “كلّ”: اسم يجمع الأجزاء، وهو محمول على المعنى دون اللفظ كما في قول الله عز وجل: (كلٌّ له قانتون)، ويقول الجوهري: “كلّ” لفظه واحد ومعناه جمع، فعلى هذا نقول (كلٌّ حضر) و (كلُّ حضروا) وقال أبو الهيثم فيما أفادني عنه المنذري: تقع كل على اسم منكور موحد، فتؤدي معنى الجماعة كقولهم:  ما كل بيضاء شحمة ولا كل سوداء تمرة. وسئل أحمد بن يحيى عن قول الله عز وجل: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) وعن توكيده بكلهم، ثم جاء بأجمعون فقال: لما كانت كلهم تحتمل شيئين تكون مرة اسمًا ومرة توكيدًا، جاء بالتوكيد الذي لا يكون إلا توكيدًا حسبُ.  ومن هنا نستخلص أن الكاتب اختار لفظ (كل) للتوكيد على الخيانة وعلى الشمولية كذلك؛ حيث يستعرض في الرواية عدة أزمنة مختلفة، وبذلك فقد أجمع الكاتب وأكد على وجود الخيانات في سائر الأزمنة من كل الشخصيات مع تفاوت درجات الخيانة في الشخصيات وكذلك في العصور.

ويبدأ الكاتب الرواية بحكاية الروح الرابعة (البنت وجد والولد نيروزي) وثورة النساء في شكل عنوان جديد فرعي ينبثق من العنوان الأصلي للرواية (أو بالأحرى العناوين السبعة)، ومن العنوان نفهم أننا أمام قصة عاشقين مثل قصص عنتر وعبلة أو قيس وليلى كما اعتدنا في السرد، وها هو الكاتب يبدأ العنوان باسم البنت وجد ثم الولد نيروزي وكأنه يلفت الأنظار إلى اختلاف القصة؛ فهي ليست مجرد قصة عاشقين، ولكن هناك الكثير من الأحداث التي تنتظرنا، ولا نستطيع أن نقاوم الدهشة التي أثارها المقطع الثاني من العنوان (ثورة النساء) فهل للنساء ثورة؟ متى؟ وعلى من؟ وكيف؟ وأين؟ وسوف تقوم الأحداث بالإجابة على هذه الأسئلة.

وبينما يلوح لك العنوان بقصة من عصر بعيد، إلا أنك فور دخولك لمسرح الأحداث تجد الرواية تبدأ بكلمات فتحي رضوان وتنهيداته في عشق الوطن والنساء، ثم تبدأ الأحداث على انفراد شهرزاد بسهر واعتراف سهر لها بعشقها لفتحي رضوان صديق زوجها لتبدأ أحداث أولى الخيانات في الرواية.

وبرغم خيانة سهر لزوجها إلا أنها لا تعترف بذلك، وتلقي باللوم على الحظ فتقول لشهرزاد نافيةً عنها صفة الخيانة: (سيقولون خانها حظها في الاختيار، خانها التقدير، خانني الحلم وخانني كل شيء فاخترت الفرار إلى العشق.)

وتبدأ شهرزاد في فتح صندوق أسرار حكاياتها وتغزل ثوبًا جديدًا بسرد حكاية جديدة وهي حكاية روح أخرى من أرواح سهر، إنها روحها الرابعة “وجد” التي عاشت في العصر الفاطمي. ويسرد الكاتب سلسلة من الخيانات بدءًا من خيانة الوطن حيث يقول على لسان فتحي رضوان: (كان الوطن يسكر مع الخونة والعملاء دون حياء.. وكنا على بابه نصرخ ليلًا ونهارًا: “افتح لنا باب الروح” فلا يسمع ويظل سكرانًا.)

ونراه يقول: (هذا الوطن يغيّر جلده مع كل حاكم جديد.. ويغيّر دينه مع كل نبي.. ويغيب عقله كل مساء.. حتى لا يواجه نفسه هل هو حيّ أم ميت؟)  حتى فتحي يخون زوجته وصديقه دون الشعور بالذنب، حتى وإن كان يؤنبه ضميره لثوان بعد كل لقاء بسهر، إلا أنه يعود للتفكير فيها ولقائها مرة أخرى دون إحساس بالندم. وتتوالى سلسلة الخيانات في كل العصور ومعظم الشخصيات.. التي قد تخون أوطانها أو أقرب الناس إليها وربما خانت نفسها. ويُمكننا تصنيف هذا العنوان حسب تصنيفات ج. جينيت بأنه من العناوين الموضوعية (titres objectaux) التي تجعل النص نفسه مرجعًا لها،وتعين النص إلى حد جعله موضوعًا.

  • العنوان الثاني: فنجان شاي العصر

استكمالًا لسلسلة أسماء الروايات التي أصدرها الكاتب السيد حافظ ضمن سباعيته الروائية: قهوة سادة – قهوة زيادة، كابتشينو، ليالي دبي ( شاي أخضر – شاي بالياسمين)، كان لهذه الرواية نصيب من هذه العناوين التي يجمعها رابط واحد وهو أنها مشروبات تُقدم في المقهى، هذا المقهى الذي يُعد بمثابة النادي الاجتماعي أو المجلس (الديوان) الذي يجتمع فيه العرب يتناولون أطراف الحديث، ويتبادلون الأفكار والرؤى، ويعلقون عما يدور حولهم من أحداث، وقد ارتبط مشروب الشاي بالشعب المصري ارتباطًا وثيقًا؛ حيث انتشر بين العامة في مصر بعد الحرب العالمية الأولى، حيث استجلب الإنجليز الفلاحين المصريين إلى أوروبا ليكونوا عمالًا بعد نقص العمالة هناك بسبب الحرب، فعرفوا مشروب الشاي واعتادوا على شربه وانتشر في مصر بين العامة بعدما كان قاصرًا على طبقة الأمراء والوجهاء. وأصبح المشروب الشعبي في مصر نديم التجمعات ورفيق الأمسيات، على مذاقه يجتمع الصغير والكبير فيتسامرون ويتبادلون الحكايات. وعلى شرف فنجان الشاي كانت سهر تبوح لشهرزاد بعشقها لفتحي. وبتطبيق مفهوم ج. جينيت عن وظيفة العناوين نستطيع وصف هذا العنوان بأنه من العناوين الذاتية (titres subjectaux)  والتي تعين موضوع النص.

يقول الكاتب جان ايف تادييه:  ( إن أصالة سوسيولوجيا الأدب تعود إلى أنها تقيم علاقات بين المجتمع وبين العمل الأدبي وتصفها، فالمجتمع سابق في وجوده على العمل الأدبي لأن الكاتب مشروط به، يعكسه ويعبر عنه ويسعى إلى تغييره، والمجتمع حاضر في العمل الأدبي حيث نجد أثره ووصفه وهو موجود بعد العمل لوجود سوسيولوجيا للقراءة وللجمهور الذي يقوم هو أيضًا بإيجاد الأدب.)  وهذا ما نجده بالفعل في هذه الرواية حيث يتجلى المجتمع بكافة أطيافه كبطل وشريك أساسي في العمل ومحرك لمحور الأحداث.

  • العنوان الثالث: الرائي

إذا ما دققنا في معنى كلمة الرائي لغويًا نجد أنها مشتقة من فعل رأى أي نظر، قال ابن الأعرابي: أريته الشيئ إراءة وإرادة، ويقول الجوهري: أريته الشيئ فرآه وأصله أرأيته.

كما جاء في الحديث الشريف: لا يتمرأى أحدكم في الماء.. أي لا ينظر وجهه فيه.  فها هو الكاتب ينظر للتاريخ بعين فاحصة يفتش فيه ويكشف خفاياه وما تم طمسه وتدليسه. وكذلك نجد في اللغة: استرأى الشيء أي استدعى رؤيته.

وقعت أحداث الرواية  في عدة أبعاد زمكانية مختلفة، نراها عن طريق وصف شهرزاد لسهر التي تقمصت دور الراوي في مواضع الانتقال إلى زمن المستنصر، ونراها برؤية فتحي رضوان من خلال ذكرياته في الإسكندرية، ثم نراها في مقالاته التي تتخطى حدود الزمان والمكان وتتوغل في عصور مختلفة. يقول ميلان كونديرا:( تعكف جميع الروايات في كل زمان على لغز “الأنا” إذ ما إن تبتكر كائنًا خياليًا، شخصية قصصية، حتى تواجه آليًا السؤال التالي: ما هي الأنا؟ وبم يمكن إدراك الأنا؟  إنه واحد من هذه الأسئلة التي تقوم عليها الرواية بوصفها كذلك.)

وهنا يمكننا استيعاب فكرة الكاتب حين جمع بين الرائي والراوئي الذي انغمس في الأحداث وتنقّل بين العصور متفحصًا ومدققًا في التاريخ وقد استخدم بعض الشخصيات التاريخية الحقيقية، واستحدث شخصيات أخرى من وحي خياله ليستقيم بناء العمل الدرامي ولكن القارئ لا يمكنه أن يميزها لأن الكاتب جسدها بدقة وألبسها من روحه رداءً جعلها تتحرك أمام أعيننا. ويبدو لنا أن هذا العنوان أيضًا يقع تحت وظيفة العناوين الذاتية (titres subjectau)

 

  • العنوان الرابع: العصفور والبنفسج

وقبل أن نتطرق لدلالات هذا العنوان، نجد أن ثمة عنوان داخلي قد حمل اسم: “الرائي والبنفسج”، وكأن الكاتب أراد جمع العنوانين المقترحيّن للرواية في هذا الفصل؛ فماذا كان ينشد الكاتب من هذا العنوان؟ حين يتابع القارئ هذا الفصل أو ما يلي هذا العنوان قد يتفاجأ بانقسام السرد إلى عدة محاور:

– المحور الأول هو قصة سهر وفتحي في دبي.

– المحور الثاني هو حكاية الدولة الفاطمية بعد موت الظاهر بالله بن الحاكم بأمر الله وما حدث في مصر المحروسة في هذه الأثناء بعد تولي ابنه المستنصر الحكم، ومرور البلاد بسنوات الشدة المستنصرية، ومن خلالها نتابع قصة وجد ونيروزي.

–  المحور الثالث مذكرات فتحي عن جيرانه في الإسكندرية وحكاياتهم التي تلخص حالة مصر في ذلك الوقت.

وهنا قد يشعر القارئ ببعض التشتت، خاصة مع وجود الفواصل مثل المسرحية القصيرة جدًا التي عرضها الكاتب في تناغم مع أحداث الرواية الأصلية، حيث لم ينسَ الكاتب كونه مخرجًا مسرحيًا، ولكن المفاجأة أن القارئ يظل أسير السرد، تدهشه التفاصيل، وتجذبه الأحداث التي لا يمكنه توقعها.

والآن يتضح لنا سبب اختيار الكاتب لهذا العنوان؛ فالرائي هنا هو الكاتب نفسه الذي تقمص شخصية فتحي فيلقي بنظرة فاحصة على التاريخ والأحداث ويترك لنا حرية الرأي بعدما أومأ لنا بإشارات ألقى فيها رأيه علينا. وأما اختيار البنفسج هذه الزهرة التي ارتبطت بالحزن فهي تعبر عن حالة الكآبة التي عاشتها مصر في تلك الفترة العصيبة من الجفاف وهلاك البشر والشجر. كذلك لازم الحزن قلب سهر رغم توقعاتها بأن حياتها ستتغير في دبي وأن حلم الثراء سيتحقق، لكنها خاب أملها في زوجها الذي لم يكن على قدر توقعاتها، مما جعلها تقع فريسة سهلة لكلمات فتحي. وأما العصفور فهو يُعيدنا إلى الرواية الأولى قهوة سادة – قهوة زيادة في إشارة إلى عصفور سهر الذي كان ملازمًا لها في الجبل.

وهنا نتذكر كلمات فتحي رضوان: (الحب عادة وعبادة وأنتِ يا سيدة الحزن البنفسجي عشقي الشجي وتاريخ جنوني.)

إن الدلالات التي تحملها الأسماء ما هي إلا بوابات لفضاءات أخرى للنص، تفتح ذائقة القارئ ليحلق معها في قصص العشق والسحر، عشق فتحي المحرم لسهر الذي ارتبط بالعصفور الحزين الذي ظل معلقًا بها حتى مات، وعشق نيروزي الطاهر لوجد التي عشقتها العصافير وكانت تحلق فوق بيتها لتنشر البهجة والسعادة، حتى بعد اختفائها عرفت مكانها وحلقت فوق منزلها.

كما قال تزفيتان تودورف: (إن العلامة لا تكون علامة إلا إذا كان ممكنًا ترجمتها من خلال علامة أخرى تكون موضحة بشكل كامل.)

  • العنوان الخامس: كل من عليها جبان.

تُرى ما هو سبب الخيانة؟ وهل الجُبن والخوف من المواجهة قد يدفعان للخيانة؟ هذا هو الشعور الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ من خلال تتبعه للأحداث؛ فلولا جُبن سهر في مواجهة زوجها (الذي لم تجد فيه من الصفات ما كانت تنشده) وكذلك رفضها للعودة إلى بلادها ومواجهة أهلها وأهل الجبل، ما وقعت في براثن الخيانة. هو نفس الجُبن الذي جعل والد وجد يزوجها لنيروزي في الخفاء خوفًا من المواجهة وإحساسه بالضعف. كذلك كان جُبن المصريين وخوفهم من الحاكم (المستنصر) ووزرائه والتجار وسطوتهم، مما جعل هؤلاء البسطاء فريسة سهلة لهم، وعند حدوث الجفاف والأزمة لم يستطع الشعب الثورة على التجار وجشعهم، بل استقووا على بعضهم حتى وصل بهم الحال إلى أكل بعضهم البعض أحياءً وأمواتا. كما كان الجُبن هو نفسه الذي جعل العرب يتعادون ويكيد بعضهم لبعض في الغربة، ويُعادي بعضهم بعضا، فيكره الفلسطيني المصري ويلومه على مزاحمته له في الخليج بدلًا من أن يوجهوا عداءهم للعدو الصهيوني الذي اغتصب وطنه؛ فنجد الكاتب يقول على لسان فتحي رضوان: (أعرف أن معظم الفلسطينيين لا يحبون المصريين لأنهم يزاحمونهم في سوق العمل في الخليج! ثقافة المخيم الفلسطيني وثقافة الفهلوي للمصري تتصادمان..)

وبهذا يكون لنا عودة إلى العنوان الموضوعي (titres objectaux) الذي يدفعنا للرجوع إلى النص لقراءته وفهمه.

  • العنوان السادس: كل من عليها هان.

يشتق في اللغة الفعل “هان” من كلمة هون، والهُونُ هو الخزي، وفي التنزيل العزيز: “فأخذتهم صاعقة العذاب الهون” أي ذي الخزي. والهُون بالضم الهوان وهو نقيض العز.. هان يهون هوانا، أما الهَوْنُ فهي مصدر هانَ عليه الشيء أي خفّ.. وقال امرؤ القيس: تميل عليه هُونَةٌ غير معطال..  هُونة ضعيفة من خلقتها لا تكون غليظة كأنها رجل، وروى غيره هونة أي مُطاوعة

بالفعل عاشت الشعوب العربية فترات مظلمة في هوان، كما اتصف أهلها باللين والضعف والاستسلام في أحيان كثيرة فذاقوا مرارة الذل والمهانة.. نعم؛ فقد استهانت الأوطان بشعوبها حتى ضاقت عليهم السُبل وأصبحوا يبحثون عن أي مخرج، فنجد حامد الصقر قد ترك الشام وفرّ إلى فنزويلا بعدما تآمر الأشرار على والده بمباركة المختار والد وردة، وفرار منقذ إلى دبي للبحث عن العمل والثراء السريع، وفرار كاظم من الشرطة في الشام وهروبه إلى الجبل ثم هروبه الثاني إلى دبي ليكون بالقرب من سهر. وكذلك فتحي رضوان بعدما يئس من وطنه، وأنهكته معاركه الخاسرة من أجل الدفاع عن أفكاره ورغبته في التطوير.. كما وهان الشعب المصري على حاكمه المستنصر فتركه فريسة الجوع بسبب الجفاف من جهة وبسبب جشع التجار من الجهة الأخرى. وكأن الكاتب لا يريد أن يخرج من عباءة العناوين الموضوعية ليدفع القارئ إلى الغوص في عوالمه الخفية.

  • العنوان السابع: كل من عليها بان.
  • يُشتق الفعل “بان” في اللغة العربية من تباين، فنجد تباين الرجلان: أي بان كل واحد منهما عن صاحبه، وكذلك في الشركة إذا انفصلا.

كذلك يُشتق من بيان: وهو ما بُيّن به الشيء من الدلالة وغيرها كقول الشاعر:

لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فوقَ ضاحِي جِلدِها            لأبَانَ مِن آثارِهِنَّ حُدُورُ

وقال ابن برّيّ عند قول الجوهري: والجمع أبيناء

واستبيان الشيء: ظهر وتبيّن الشيء أي ظهر.

يُقال في الأثر: تُعرف معادن الناس في الشدائد والمحن، وهنا تنجلي طباع البشر وتظهر صفاتهم وطبائعهم، وما أعظم من محنة الجفاف في زمن الشدة المستنصرية! هذه المحنة التي ألمت بالشعب بجميع طبقاته، وهنا ظهرت أنانية الحاكم وعدم مبالاته بشعبه وعدم اهتمامه به، وتوفر الغذاء في قصور الحاكم وعدم تأثرها، وظهر جشع التجار الذين احتكروا القمح وباعوه بأغلى الأسعار حتى أنه كان يُقدّر بالذهب، كذلك فئة المقربين من التجار والمتنفعين الذين يلعبون دور الوساطة ليؤمنوا حصتهم من القمح وكذلك يتكسبون من الأبرياء المعدمين… وقد استخدم الكاتب عنوانًا فرعيًا يقول: تجار مصر سرقوها وخانوها ثاني وثالث ورابع وسابع.. (حيث يقول خضر: يا أهالي مصر المحروسة. يا أهالي مصر الموكوسة. يا أهالي مصر المنحوسة. تجار مصر سرقوها وخانوها. كل من عليها خان. تجار مصر بيسرقوها ثاني وثالث ورابع لحد سابع عام.)

وهذا تلميح من الكاتب بأن الخيانة مستمرة على مرّ العصور.. حتى الشعب نفسه من الفقراء باع بعضهم البعض، واستبدلوا أبناءهم حتى لا يأكل الأب ابنه، وظهرت نفوسهم على حقيقتها إلا من قليل من كانوا أصحاب القلوب الرحيمة الطيبة مثل ست مصر وفجر.. فكانت ست مصر هي ضمير المستنصر الذي يؤرقه ويدفعه لإقامة العدل، وها هي تنادي: (يا خليفة المسلمين لتنظر أمامك مظاهرات شعب مصر. مظاهرات فيها ستات مصر. كل الستات طالعين عاملين مظاهرة. دا اللي ح يتكتب في التاريخ: لما الرجالة نامت.. ستات مصر قامت. لما الرجالة سكتت.. ستات مصر صِحيت.)  وكانت فجر داعمة للفقراء وهي التي حمت وجد وأبعدت زوجها عنها حين أراد الزواج منها رغم رفض والدها وهي تصغره بعشرات السنوات، وكذلك حمتها مرة ثانية هي ونيروزي وأسرتها بعد عودتهم من جنوب البلاد أثناء سنوات الشدة، ثم كانت المحرضة على الثورة بين البسطاء. وها هي فجر تشارك في الثورة فتقول: (سيكتب التاريخ: في عهدك كان ثمن عقد الماس اللي بألف ألف دينار قبضة قمح.. في عهدك ازداد الفقراء جوعًا..)  كذلك تظهر طباع وخصال الناس في السفر، فها هو فتحي يحكي عن العرب في الغربة وقسوتهم على بعضهم البعض ومحاربتهم لغيرهم، وكأنهم لا يعلمون أن الأرزاق بيد الله يوزعها كيف يشاء.

هذا بالإضافة إلى العناوين الفرعية التى استخدم بعضها كفواصل بين فصول الرواية منها المسرحية القصيرة، ومنها حكايات (إحنا والقمر جيران) التي شكلت تناصًا مع كلمات أغنية فيروز التي استغلها الكاتب ليسرد حكايات جيران فتحي رضوان البطل ليقدم شريحة أخرى من المجتمع بتفاصيله وعشوائياته ولهذا اختار لها عنوانًا باللهجة العامية.

الخاتمة:

حرص الكاتب على استخدام العناوين الموضوعاتية (thematique) في إشارة واضحة لمضمون الرواية وما تحمله من موضوعات تتمحور جميعها حول صفة الخيانة، ضمنها في شكل مجموعة بدأ بها أول السرد في شكل سبعة عناوين مقترحة للرواية ثم بدأ من خلال السرد بطرح عناوين فرعية ليشكل لنا ما يسمى بالعناوين الفوقية أو العلية (sur titres).

العناوين الأصلية – كل من عليها خان.فنجان شاي العصر.الرائي، العصفور والبنفسج،كل من عليها جبان،

كل من عليها هان،كل من عليها بان.

اما العناوين الفرعية  فهي -حكاية الروح الرابعة (البنت وجد والولد نيروزي وثورة النساء)

الرائي والبنفسج،إحنا والقمر جيران (الحكايات من الأولى حتى السابعة) المستخدمة كفواصل بين فصول الرواية الأساسية.

استخدم الكاتب أسلوب التناص مع الآية القرآنية في سورة الرحمن: (كل من عليها فان) واستبدل الكلمة فان بـ خان، جبان، هان، بان.. هذه الكلمات التي أفسحت المجال للسرد بدلالاتها المعبّرة في تسلسل يشي بترتيب سلسلة الانهيار والانحدار الأخلاقي في المجتمعات؛ فالخيانة تأتي أولًا حين يستسلم الإنسان لشيطان أفكاره فيهون عليه الجميع: الأوطان ، الأحبة، الأصدقاء، حتى نفسه.. فتسقط الأقنعة وتظهر حقيقته التي حاول إخفاءها بقناع المثالية والأخلاق الحميدة.

 

المراجع:

  • عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص- عبدالحق بلعابد تقديم د. سعيد يقطين
  • نظرية التناص- جراهام آلان   ترجمة د. باسل المسالمه  دار التكوين للتأليف والترجمة
  • معجم لسان العرب- ابن منظور
  • النقد الأدبي في القرن العشرين- جان ايف تادييه ترجمة  د. قاسم المقداد  منشورات وزارة الثقافة-  دمشق
  • فن الرواية – ميلان كونديرا ترجمة د. بدر الدين عرودكي الأهالي للطباعة والنشر  سورية
  • نظرية الأجناس الأدبية – تزفيتان تودورف ترجمة عبدالرحمن بو علي  دار نينوي.
    دراسة نقدية نشرت ضمن سلسلة رؤى نقدية الصادرة عن مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر

    اقرأ أيضا:ثنائية الحضور والغياب والتناص في رواية كيميا.. دراسة نقدية

Visited 19 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه