لماذا يفشل ترامب في «ترويض بوتين»؟ بين فخّ الأنا، تضارب المصالح، وحدود النفوذ الأمريكي

0 63

كتبت : سارة غنيم

رغم التكهّنات المتكررة عن قمة وشيكة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في بودابست، فإن تلك الشائعات بدت — كما يقول المثل — «مبالغًا فيها إلى حدّ كبير». فترامب نفسه سارع إلى نفيها بقوله: «لا أريد قمة بلا جدوى، ولا أن أضيع الوقت حتى أرى ما سيحدث»، في عبارة تلخّص المزاج المتقلّب الذي يطبع مقاربته للعلاقات مع روسيا، وتكشف في الوقت نفسه حدود قدرته على التحكم بخيوط اللعبة.

منذ عودته إلى المشهد السياسي بقوة، بعد سنوات من الجدل والانقسام، اختبر ترامب طيفًا واسعًا من المواقف تجاه موسكو: لوّح بفرض عقوبات قاسية، هدّد بتزويد أوكرانيا بأسلحة فتاكة، ثم تراجع فجأة بعد مكالمة هاتفية وصفها بـ«المثمرة» مع بوتين.

في المقابل، لم يتردد في إهانة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي علنًا وسرًا، ملوّحًا بوقف المساعدات العسكرية لبلاده، قبل أن يسمح لاحقًا ببيع الأسلحة للأوروبيين ليقوموا هم بإيصالها إلى كييف.

هذا التناقض ليس جديدًا في سلوك ترامب السياسي، لكنه هذه المرة يكشف مأزقًا أعمق: كيف يمكن لرئيس يرى السياسة الخارجية امتدادًا للتجارة أن يواجه زعيمًا يرى في الحرب استمرارًا للسياسة؟

من نجاحات متفرقة إلى إخفاق استراتيجي

يرى ترامب نفسه «صانع صفقات» أكثر منه رجل دولة، ويفتخر بأنه نجح في تهدئة نزاعات طال أمدها أو على الأقل في فتح قنوات تفاوض بين خصوم تاريخيين.

يحبّ أن يذكّر بأن بصماته وُجدت — بطريقة أو بأخرى — في ملفات معقدة: من إسرائيل وإيران إلى أرمينيا وأذربيجان، مرورًا برواندا والكونغو، ومصر وإثيوبيا، وصربيا وكوسوفو، والهند وباكستان.

لكن الملف الأوكراني بقي عصيًا على منطقه القائم على «الصفقة» و«الصفقة المضادة». فالحرب هناك ليست نزاعًا إقليميًا محدودًا، بل اختبارًا وجوديًا لمعادلة القوة في أوروبا والعالم.

ومع أن ترامب حاول إدارتها بذات الأدوات التي استخدمها في الشرق الأوسط، إلا أنه وجد نفسه أمام واقع مختلف تمامًا: بوتين ليس نتنياهو، وزيلينسكي ليس عباس، وأوكرانيا ليست غزة.

“نصف معجزة” في غزة… ونفوذ يتلاشى في كييف

في الشرق الأوسط، تمكن ترامب من توظيف نفوذه السياسي والاقتصادي لتحقيق ما وُصف حينها بـ«نصف معجزة» في غزة.

فالتوتر الخليجي، خصوصًا إثر الهجوم الإسرائيلي على قطر وما تبعه من اصطفافات جديدة، منحه فرصة غير مسبوقة للضغط على بنيامين نتنياهو للقبول باتفاق تهدئة هش، لكنه واقعي.

ساعده في ذلك دعمه غير المشروط لإسرائيل، بدءًا من الاعتراف بالقدس عاصمة لها، ومرورًا بشرعنة المستوطنات في الضفة الغربية، وصولًا إلى تبنّي موقف متشدد ضد إيران.

كما استفاد من علاقاته المتينة بدول عربية نافذة أعادت رسم توازنات القوة في المنطقة، ما أتاح له — ولو مؤقتًا — أن يظهر بمظهر صانع السلام القادر على فرض تسويات تحت شعار «الصفقة الكبرى».

لكن أوكرانيا مختلفة. فبالنسبة لترامب، لم تكن الحرب هناك إلا «صفقة مؤجلة»، أو بالأحرى فرصة تجارية وسياسية يمكن استثمارها داخليًا وخارجيًا.

فهو يرى نهاية الحرب بوصفها استثمارًا مربحًا لعائلته وحلفائه، ودرجًا إضافيًا نحو الجائزة التي تطارده كهاجس شخصي: جائزة نوبل للسلام. غير أن هذا الطموح يصطدم بواقع لا يمنحه سوى هامش محدود للمناورة.

فولوديمير زيلينسكي

زيلينسكي… لم يعد الطرف الضعيف

السبب الأول لفشل ترامب في «ترويض» الصراع الأوكراني يعود إلى تغيّر موازين القوة على الأرض.

فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي بدا في بدايات الحرب رهينة دعم واشنطن، لم يعد كذلك اليوم.

فبفضل الدعم الأوروبي المتزايد، اقترب الاتحاد الأوروبي من إقرار خطة ضخمة لإطلاق قرض بقيمة 140 مليار يورو، ممول جزئيًا من الأموال الروسية المجمّدة، لدعم المجهود الحربي الأوكراني وشراء الأسلحة على المدى الطويل.

كما أن كييف باتت تمتلك قدرات متنامية على ضرب العمق الروسي عبر الطائرات المسيّرة، مستهدفة المصافي ومصانع الأسلحة.

في المقابل، تواجه موسكو مأزقًا بشريًا حقيقيًا. فوفق تقديرات الإيكونوميست، خسرت روسيا في عام 2025 وحده نحو 100 ألف جندي — أي ستة أضعاف عدد القتلى السوفييت في حرب أفغانستان التي استمرت عقدًا كاملًا.

هذه الحقائق تجعل من زيلينسكي لاعبًا يصعب تجاوزه، حتى بالنسبة لرئيس أمريكي يهوى اختزال العلاقات الدولية في معادلات القوة والصفقات.

لغز العلاقة: إعجاب، مصالح، أم ابتزاز؟

السبب الثاني لفشل ترامب أكثر تعقيدًا. إنه لغز العلاقة الشخصية والسياسية بينه وبين فلاديمير بوتين.

فما الذي يجعل ترامب مقتنعًا بأن بوتين المنتصر الحتمي في نهاية المطاف؟

ولماذا ينجح الزعيم الروسي في كل مرة بإعادة صياغة موقف ترامب، ولو مؤقتًا، بعد مكالمة أو لقاء مقتضب؟

التحليلات تتوزع بين ثلاث فرضيات:

الفرضية الأولى تقول إن الكرملين يمتلك ما يكفي من ملفات الابتزاز (“كومبرومات”) التي يمكن استخدامها ضد ترامب، وهي رواية تكررت دون أدلة حاسمة.

الفرضية الثانية تدعو إلى «متابعة الأموال»، مشيرة إلى تدفقات مالية روسية دخلت منذ مطلع الألفية إلى مشاريع ترامب العقارية.

أما الفرضية الثالثة — الأكثر إقناعًا ربما — فتستند إلى البعد النفسي: فترامب، كما يرى عدد من المحللين، معجب بنموذج «الرجل القوي» الذي يجسده بوتين، وربما يحسده على قدرته المطلقة على اتخاذ القرار دون قيود مؤسساتية أو مساءلة سياسية.

حين غزا بوتين أوكرانيا في فبراير 2022، وصفه ترامب بأنه «عبقري» — عبارة تختصر أكثر مما تشرح.

ترامب: “خلال أسبوعين سنعرف إذا كان هناك اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا”

بين كوتوزوف وترامب: صبر الأول وفوضى الثاني

ربما تكمن الإجابة الأدق في الفارق الجوهري بين أسلوبي الرجلين.

بوتين، المولع بتاريخ بلاده العسكري، يجيد الانتظار. يتشبث بمبدأ الجنرال كوتوزوف في الحرب والسلام لتولستوي، الذي اعتبر «الوقت والصبر» أفضل أسلحة الحرب.

أما ترامب، فهو نقيض هذا المنطق تمامًا: متهور، مفرط النشاط، يتخذ قراراته في لحظة انفعال، يسعى إلى النتائج الفورية والمكاسب السريعة، ولا يحتمل فكرة الانتظار أو التراجع التكتيكي.

وبين صبر بوتين الماكر وفوضى ترامب المحمومة، تتجسد معادلة الفشل الأمريكي في التعامل مع موسكو.

فالرئيس الأمريكي السابق، الذي يرى نفسه محور العالم، لم يدرك بعد أن خصمه الروسي لا يلعب بالوتيرة نفسها، ولا وفق القواعد ذاتها.

وفي لعبة الشطرنج الجيوسياسية، تبدو أوراق بوتين القليلة كافية فقط لأن خصمه لا يعرف كيف ينتظر دوره.

Visited 10 times, 10 visit(s) today
اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق