أحمد عبد الناصر
تشهد مدينة غزة منذ الثلاثاء 16 سبتمبر تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق، بعد أن أعلن جيش الاحتلال بدء عمليته العسكرية البرية “عربات جدعون 2” التي تمهّد – بحسب تصريحاته – للسيطرة الكاملة على المدينة. سبقت هذه العملية موجات قصف جوي وبري مكثف، شملت أكثر من 850 غارة خلال أيام معدودة، في محاولة لإضعاف البنية التحتية وشلّ قدرة المقاومة على الصمود.
المشهد بدا منذ اللحظة الأولى وكأنه نسخة مكررة من الحروب السابقة، لكن بجرعة أعنف وأكثر وحشية، مع مشاركة فرق عسكرية ضخمة مثل الفرقة 162 والفرقة 98، إضافة إلى استدعاء نحو 60 ألف جندي من الاحتياط. وفي المقابل، يعيش نحو مليون فلسطيني داخل غزة تحت القصف والتهجير، فيما تشير التقديرات الإسرائيلية إلى نزوح قرابة 400 ألف، غير أن كثيرًا من العائلات عادت أدراجها بسبب انهيار الخدمات الإنسانية في الجنوب، مفضّلة الموت تحت الركام على التشرّد في خيام لا وجود لها.
هذه التطورات تطرح سؤالًا جوهريًا: هل تسعى إسرائيل حقًا لتحقيق نصر عسكري حاسم، أم أن العملية مجرد ورقة سياسية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الساعي للنجاة من أزماته الداخلية؟ الأكيد أن العملية لم تعد مجرد مواجهة عسكرية، بل تحوّلت إلى مشهد معقد تتداخل فيه الأبعاد السياسية والعسكرية والإنسانية.
أولًا: طبيعة الهجوم الإسرائيلي
منذ بدء العملية البرية، اعتمد جيش الاحتلال على تكتيكات مركبة تجمع بين القصف الجوي العنيف والاقتحام البري المحدود. خلال الأيام الأولى، نفذت الطائرات الحربية أكثر من 850 غارة، استُخدمت فيها قنابل الإضاءة والأحزمة النارية،
في مشهد لم يترك للمدنيين ملاذًا آمنًا. ترافق ذلك مع قصف ممنهج للأبراج السكنية والبنى التحتية الحيوية، بما فيها شبكات الكهرباء والمياه والمستشفيات.
وبحسب المعطيات، فقد شاركت في العمليات مبدئيًا الفرقة 162 والفرقة 98، على أن تلتحق لاحقًا الفرقة 36. كما استُدعي نحو 60 ألف جندي احتياط، في أكبر تعبئة منذ حرب 2014. هذا الانتشار العسكري يعكس رغبة إسرائيل في فرض حصار خانق على غزة وعزلها بالكامل، تمهيدًا لمحاولة اقتحام قلب المدينة.
ثانيًا: الأهداف المعلنة والخفية

تتحدث الرواية الرسمية الإسرائيلية عن “تدمير بنية حماس العسكرية” و”تحرير الأسرى”، لكن واقع الميدان يشير إلى غياب خطة واضحة. فحتى قادة عسكريون إسرائيليون حذروا من استحالة تحقيق نصر كامل في غزة.
رئيس الأركان إيال زامير أكد أنه يمكن القضاء على حماس حتى لو تم احتلال غزة.
وحذر قادة عسكريون سابقون حاليون، منهم وزير الدفاع السابق موشيه يعلون، من الحرب في غزة على وجه العموم، واصفين إياها بأنها “مغامرة خطيرة بلا أفق سياسي”.
فيما تحدثت تقارير إسرائيلية عن انعدام خطة لليوم التالي للحرب، فضلا عن عدم القدرة على تحرير الأسرى في مدينة غزة حتى لو استمر بقاء جيش الاحتلال لمدة أشهر بها؛ في ظل انعدام المعلومات الأمنية والاستخبارية.
على الجانب الآخر، يرى مراقبون أن نتنياهو يستغل الحرب كوسيلة للهروب من أزماته السياسية والقضائية، والسعي لتمديد بقائه في الحكم، حتى لو جاء ذلك على حساب أرواح الفلسطينيين والإسرائيليين معًا.
وهناك أيضًا من يربط العملية بمشروع “إسرائيل الكبرى”، وما تردّد سابقًا عن نوايا لتحويل غزة إلى منطقة سياحية أو “ريفييرا على البحر”، وهي تصريحات تكررت على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتس.
ثالثًا: المأساة الإنسانية
يدفع المدنيون الفلسطينيون الثمن الأكبر. فقد أعلن الاحتلال نزوح نحو 400 ألف فلسطيني، غير أن الأرقام الميدانية تشير إلى أن مليون نسمة ما زالوا محاصرين داخل المدينة.
والأدهى أن آلاف العائلات التي نزحت جنوبًا عادت إلى غزة مجددًا بسبب غياب الخدمات الأساسية وانعدام مقومات الحياة في مراكز الإيواء. كثيرون منهم قالوا إنهم “يفضلون الموت في بيوتهم على التهجير”.

التقارير الأممية والمنظمات الإنسانية أكدت أن الاحتلال دمّر أكثر من 3600 بناية سكنية منذ بداية التصعيد، إضافة إلى استهداف المستشفيات والمدارس.
هذا الدمار الممنهج يُفسَّر في إطار سياسة التهجير القسري، إذ تسعى إسرائيل إلى تفريغ القطاع من سكانه ودفعهم نحو سيناء أو خارج حدود فلسطين، وهو ما يندرج ضمن جرائم التطهير العرقي.
رابعًا: المقاومة وصمود السكان
على الرغم من القصف المتواصل والخسائر البشرية، لا تزال فصائل المقاومة قادرة على امتصاص الصدمة. ورغم الفارق الهائل في القوة العسكرية، تؤكد الوقائع أن إرادة الفلسطينيين لم تنكسر.
والسؤال: ماذا سيفعل جيش الاحتلال في مدينة غزة وهل سيحقق الأهداف؟ فعلى مدار أكثر من 700 يوم شاركت 10 فرق إسرائيلية في الحرب على مدينة غزة وكانت المستشفيات هدفا عسكريا للطائرات الإسرائيلية زعما بأنها مأوى لقادة المقاومة ولم يحصل الإسرائيليون على نتائج من تلك المذابح يزعمون من خلالها أنهم حققوا نصرا عسكريا، ثم انتقلت قوات الاحتلال بعدها إلى خان يونس للقضاء على كتائب المقاومة وكتائب النخبة وفشلت أيضا في تحقيق أهدافها المعلنة.
اليوم، يبدو المشهد متشابهًا: جيش يمتلك أحدث الأسلحة في مواجهة مجموعات مقاتلة محدودة الموارد، لكنها مدعومة بحاضنة شعبية ترفض الاستسلام أو مغادرة الأرض. هذا ما يجعل حسابات الاحتلال معقدة، إذ أن استمرار صمود المدنيين في أماكنهم يفرغ استراتيجيته من مضمونها.
خامسًا: مأزق “اليوم التالي”
يعيش الجيش الإسرائيلي حالة تخبط واضحة، ليس فقط بسبب شراسة المقاومة، بل أيضًا لغياب رؤية سياسية. فحتى لو نجحت إسرائيل في احتلال أجزاء من غزة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: من سيدير القطاع بعد ذلك؟ وهل يمكن إخضاع مليوني فلسطيني بقوة السلاح وحده؟
سادسًا: البعد السياسي والدولي
لا يمكن فصل المعركة في غزة عن المشهد الدولي. فالولايات المتحدة تواصل توفير غطاء سياسي ودبلوماسي لإسرائيل، رغم الانتقادات المتزايدة في الداخل الأمريكي. تصريحات الرئيس دونالد ترامب حول تحويل غزة إلى “ريفييرا” لم تأتِ من فراغ، بل تكشف عن رؤية متطرفة تتماهى مع أطماع اليمين الإسرائيلي في إعادة رسم خريطة المنطقة.
في المقابل، تحذّر أصوات دولية، بينها مسؤولون أوروبيون، من أن استمرار المجازر قد يقود إلى انفجار إقليمي أوسع. مصر والأردن حذّرا من أن التهجير القسري للفلسطينيين “خط أحمر”، فيما أبدت الأمم المتحدة خشيتها من انهيار كامل للوضع الإنساني.
خاتمة
مهما بلغت وحشية القصف وضراوة الهجوم البري، تبقى غزة عصيّة على الكسر. فالتاريخ يثبت أن الاحتلال قد يدمّر البنية التحتية، لكنه يعجز عن تدمير إرادة شعب يرى في أرضه آخر ما تبقى من الهوية والكرامة.

ما جرى خلال الأيام الأخيرة ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل فصل جديد في صراع طويل، يتجاوز حدود غزة إلى معادلات الإقليم والعالم.
إسرائيل، التي ترفع شعار “الانتصار الحاسم”، تبدو اليوم غارقة في مأزق أكبر: لا أهداف واضحة، ولا أفق سياسي، ولا قدرة على فرض واقع جديد دون أن تدفع أثمانًا باهظة داخليًا وخارجيًا. أما الفلسطينيون، الذين يدفنون شهداءهم تحت الركام ويعودون إلى بيوتهم رغم النزوح، فيؤكدون أن الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل قدر وجودي لا يمكن التفريط فيه.
المشهد إذن يتجاوز حدود الدمار إلى سؤال أعمق: من يمتلك المستقبل؟ قد تطول الحرب، وقد يمتد النزيف، لكن ما يتكشف يومًا بعد يوم هو أن القوة الغاشمة وحدها عاجزة عن صناعة السلام أو فرض الاستقرار.
هنا تكمن الحقيقة: غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل رمز لمعادلة كبرى تقول إن الاحتلال قد ينتصر في معركة، لكنه يخسر الحرب أمام إرادة شعب يرفض أن يُمحى من التاريخ.
اقرأ أيضا:
مصر ترفض مخطط التهجير.. “خط أحمر” لا يمكن تجاوزه