في كراهية النساء”: الكتاب الذي أضاء جرح النقص الكامن في الطفولة
حواري مع عايدة الجوهري عن كراهية النساء، وبداية الخلاص
بقلم: [الناقد خالد محمود]
في كتابها الجديد “في كراهية النساء: حكاية ردينة وأخواتها”، الصادر عن دار العائدون – الأردن، تخوض الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة عايدة الجوهري مغامرة فكرية وإنسانية مزدوجة. فهي تسعى إلى الغوص في البنى العميقة للاضطهاد الأنثوي، لا كما يظهر في ساحات العنف الصريح والمباشر، بل كما يُزرع خفيًا، ويورَّث ناعمًا، داخل الأسر، وفي لحظات الطفولة الأولى، وفي صمت العادات والمفاهيم.
في هذا الكتاب الصغير حجمًا (80 صفحة)، الكبير دلالةً، تتقصى الجوهري أثر العنف الرمزي والنفسي، “الرهيف والخبيث” على حدّ وصفها، الذي تمارسه الأسرة، وغالبًا الأم، في مراحل التكوين الأولى. ردينة، الشخصية المحورية، ليست سوى قناع رمزي تتقن الكاتبة عبره الغوص في مأساة المرأة التي تتلقى منذ نعومة أظفارها رسائل النقصان والتبخيس والإذلال، والتي غالبًا ما تُطبع في وجدانها دون أن تعيها، وتلازمها كبنية شعورية راسخة مدى الحياة.
لكن الجوهري، في رسالة خاصة أعقبت حوارًا أوليًا حول الكتاب، حرصت على توضيح أنها تفصل تمامًا بين تجربتها الشخصية ومضامين الكتاب، مؤكدة:
“لا علاقة لما ورد في الكتاب بتجاربي الشخصية. أنا أُفصل بين الشخصي والعام، ولا أرى تناقضًا بين النفس الإنساني الحميم والنظريات الأكاديمية. بل إن علم النفس أساسًا ينطلق من الإنساني، والحميم، والباطني.”
بهذا التوضيح، تضع الكاتبة المسافة الضرورية بين الذات الباحثة ومادة البحث، لكنها في الوقت ذاته لا تتردد في منح نصّها طابعًا حيًا، نابضًا بالوجدان، كي لا يقع في جفاف التنظير أو تجريد النظرية. فهي تكتب بلسان الأثر، لا بصوت الخطابة، وتسرد ما يشبه التاريخ الصامت للمرأة في محيطها الأسري قبل الاجتماعي، حيث لا تتشكل المأساة فجأة، بل عبر جرعات متتالية من القمع والتدجين والتقليل.

تشير الجوهري في كتابها إلى أن ما يصيب المرأة من شعور بالنقص ليس حادثًا عارضًا، بل هو نتيجة لبرنامج طويل الأمد من الترويض والنبذ الداخلي، تشارك فيه الأم قبل الأب، والأخ قبل الزوج، والبيئة قبل المدرسة. وتضيف أن الاضطهاد الأسري اليومي أكثر ضراوة من العنف الزوجي العلني، لأنه يحدث في صمت، داخل الجدران، ويُمارَس باسم المحبة، أو الخوف، أو الحفاظ على “المستقبل”.
وتؤكد الباحثة أن المرأة لا تخرج من هذه الحلقة المغلقة إلا عبر انقلاب جذري في وعيها، يبدأ من إدراكها أنها ليست “ناقصة بذاتها”، بل مُنقوصة بفعل الثقافة، ومحرومة من الحب والاعتراف والرعاية التي تمنح الإنسان ثقته بنفسه. وتقول في أحد مقاطع الكتاب:
“المرأة التي ينهشها الشعور بالنقصان، لن تكفّ عن التشكيك في ذاتها، وطاقاتها، ومَلَكاتها، وسويّتها، فتتحول تلقائيًا إلى كائن مطابق لنظرية النقص الأنثوي.”
ربما هنا تتجلّى أكثر مساهمات الكاتبة وضوحًا: إضاءتها على الكيفية التي تتلقّى بها المرأة اضطهادها، وتتطابق معه، بل وتعيد إنتاجه على الأخريات. فبعض النساء، كما ترى، ينجحن في كسر الحلقة، لا لأنهن أقوى، بل لأنهن حظين في الطفولة بحدّ أدنى من الحب والرعاية والاعتراف، وهو ما يجعل شعورهن بالنقصان أقل رسوخًا، وأكثر قابلية للتمحيص والانقلاب.
الكتاب إذًا ليس تنظيرًا نسويًا صراخيًا، بل محاولة حساسة، هادئة، ومركّزة لكشف الطبقات الخفية من العنف البنيوي. في رسالتها الأخيرة، كتبت الجوهري:”هو الحس النسوي الذي يجعلنا نستشعر ما يستشعره الآخرون.”
تلك الجملة القصيرة تختزل فلسفة الكتاب كلها: القدرة على الإصغاء لما لا يُقال، والكتابة عما يُشعَر به أكثر مما يُعلَن، وفضح المسكوت عنه في قلب الحياة اليومية، لا في صفحات التاريخ وحده.
إن “في كراهية النساء” كتاب جدير بأن يُقرأ مرتين: مرة كنص نظري يضيء بنية الاضطهاد، ومرة أخرى كنداء داخلي يُعيد للمرأة حقها في الاعتراف، والحب، وكمال الوجود.
اقرأ أيضا:
الدكتورة عايدة الجوهري لـ«الجمهورية والعالم»: نوال السعداوي عززت فيّ روح التمرد
التعليقات متوقفه