كتب : أحمد عبد الناصر
بدايات الفكرة الإسرائيلية
منذ السابع من أكتوبر 2023، ومع اندلاع العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، بدأت في الداخل الإسرائيلي أصوات متطرفة تطالب بتهجير الفلسطينيين إلى مصر.
ورغم أن هذه الدعوات لم تكن رسمية في البداية، فإن خطورتها تجلت سريعًا بعدما تبنّاها محللون سياسيون وكتّاب إسرائيليون مؤثرون، لتتحول لاحقًا إلى محور نقاش داخل بعض الأوساط الرسمية في تل أبيب.
تحذيرات مصر منذ اليوم الأول
منذ بداية الحرب، شددت القاهرة على أن العدوان سيقود المنطقة إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، ولن يقتصر أثره على الفلسطينيين وحدهم.
وقد تحقق ذلك بالفعل مع تصاعد التوترات الإقليمية، وامتداد الأزمة إلى البحر الأحمر، حيث تأثرت الملاحة الدولية بسبب هجمات الحوثيين، ما دفع كثيرًا من السفن إلى سلوك طريق رأس الرجاء الصالح بديلًا عن قناة السويس، متسببًا في خسائر بمليارات الدولارات لمصر.
دبلوماسية نشطة رغم الخسائر
وعلى الرغم من هذه التحديات الاقتصادية الكبيرة، واصلت القاهرة دورها الدبلوماسي بنشاط، ساعيةً إلى التوصل لوقف إطلاق النار. وقد نجحت بالفعل بمشاركة الوساطة القطرية في رعاية هدنتين بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، تخللهما عمليات تبادل للأسرى.
هدنتان في غزة بوساطة مصرية – قطرية
الهدنة الأولي (نوفمبر 2023)
بدأت الهدنة الأولى في 24 نوفمبر 2023، واستمرت لمدة 7 أيام.
تركزت على تبادل الأسرى والمعتقلين، وقد أفرجت المقاومة عن عدد من الأسرى الإسرائيليين مقابل الإفراج عن عشرات النساء والأطفال الفلسطينيين من سجون الاحتلال.
خلال هذه الهدنة دخلت بعض المساعدات الإنسانية والوقود إلى القطاع، لكن بكميات محدودة جدًا لا تلبي حجم الكارثة الإنسانية.
انتهت الهدنة بعودة إسرائيل إلى القصف العنيف بحجة خرق الاتفاق.
الهدنة الثانية (يناير 2025)
جاءت بعد شهور طويلة من الحرب واستمرار المجازر ونزوح مئات الآلاف من سكان غزة، ورعتها القاهرة والدوحة بجهود دبلوماسية مكثفة، وسط ضغوط أمريكية وأوروبية، وقد دخلت حيز التنفيذ في 19 يناير 2025.
شملت الهدنة أيضًا تبادل دفعات جديدة من الأسرى والمحتجزين من الجانبين، وسمحت بزيادة نسبية في إدخال المساعدات للمدنيين المحاصرين، خاصة في شمال غزة، غير أن إسرائيل خرقت الاتفاق في 18 مارس 2025 باستئناف عملياتها العسكرية، لتفشل الهدنة سريعًا ويعود التصعيد الدموي من جديد، في خطوة زادت من تعقيد المشهد.
مصر.. جسر إنساني لغزة
منذ اندلاع العدوان على قطاع غزة، لعبت مصر دورًا محوريًا في إغاثة المدنيين عبر استقبال آلاف الجرحى والمصابين في مستشفياتها، خاصة في شمال سيناء، حيث فُتحت مستشفيات العريش والشيخ زويد ورفح لاستقبال الحالات الحرجة.
كما أرسلت القاهرة فرقًا طبية وسيارات إسعاف مجهزة إلى معبر رفح لتأمين عملية النقل وتقديم الإسعافات الأولية قبل تحويل المصابين إلى المستشفيات.
وبالتوازي، كانت مصر أكبر منفذ للمساعدات الإنسانية إلى غزة، حيث أشرفت على إدخال قوافل الغذاء والدواء والوقود عبر معبر رفح، رغم محاولات الاحتلال المتكررة لعرقلة وصولها.
كما أطلقت مبادرة “زاد العزة.. من مصر إلى غزة” التي ضمت مئات الشاحنات المحملة بالمواد الأساسية، إضافة إلى إرسال أطباء وفرق إغاثية للمشاركة في التخفيف من الكارثة الإنسانية التي يعانيها أكثر من مليوني فلسطيني.
التهجير.. خط أحمر مصري
الموقف المصري من التهجير كان وما زال حاسمًا. الرئيس عبد الفتاح السيسي أكد بوضوح أن مصر لن تكون شريكًا في نكبة جديدة، ولن تقبل بأي ظلم يتعرض له الشعب الفلسطيني، وسترفض التهجير ولن تسمح به على الإطلاق تحت أي ضغط كان.
وترجم هذا الموقف عمليًا برفضه لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد أن ألمح الأخير إلى وجود خطة لإعادة توزيع الفلسطينيين بين مصر والأردن، وهو ما اعتبرته القاهرة مساسًا مباشرًا بأمنها القومي وحقوق الشعب الفلسطيني.
دعم داخلي وعربي للموقف المصري
هذا الرفض القاطع لم يكن موقف القيادة المصرية وحدها، بل حظي بدعم واسع من الداخل، حيث أجمعت القوى الوطنية والإعلامية على أن التهجير يمثل تهديدًا لأمن واستقرار الدولة المصرية.
كما لقي الموقف المصري تأييدًا عربيًا واسعًا، إذ أعلنت السعودية والإمارات ودول أخرى رفضها المطلق لأي خطة من شأنها تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير، محذرة من انعكاسات خطيرة على الأمن القومي العربي ككل.
تصعيد إسرائيلي واستفزازات مباشرة

الأمور ازدادت خطورة حين خرج رئيس وزراء الاحتلال علنًا يطالب مصر بفتح أراضيها لاستقبال الفلسطينيين، متهمًا القاهرة بأنها تمنعهم من المغادرة، وزاعمًا أن سكان غزة يريدون الخروج طواعية.
في الوقت نفسه، حول الاحتلال القطاع إلى جحيم عبر القصف والحصار والتجويع، في محاولة لدفع الفلسطينيين نحو الحدود المصرية. هذا التكتيك فهمته القاهرة جيدًا، وكشفت للعالم عن «فخ الضغط الإنساني» الذي يسعى الاحتلال لتوريطها فيه.
الأمن القومي المصري
المراقبون يرون أن موقف مصر يستند إلى معطيات أمنية واضحة، فالقاهرة التي خاضت حربًا طويلة ضد الإرهاب منذ عام 2011 لن تسمح بفتح حدودها أمام أي اختراق قد يهدد أمنها القومي.
في الوقت ذاته، تواصل مصر دعمها الثابت للفلسطينيين وحقهم في إقامة دولتهم المستقلة، انطلاقًا من مبادئها الإنسانية ودورها التاريخي في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
الموقف المصري في القانون الدولي
خبراء القانون الدولي يؤكدون أن القاهرة تستند في موقفها إلى شرعية قوية، إذ يجرّم القانون الدولي التهجير القسري ويعتبره جريمة حرب. ويشير المراقبون إلى أن رفض مصر القاطع لهذه الخطط لا يحمي أمنها القومي فحسب، بل يعزز أيضًا الموقف الفلسطيني في مواجهة محاولات تصفية قضيتهم، ويؤكد أن المجتمع الدولي مطالب بتحمل مسؤولياته تجاه حماية المدنيين ووقف سياسات الاحتلال.
تنفيذ الاحتلال للتهجير ومخالفة القانون الدولي
يرى خبراء ومنظمات حقوقية أن ما يجري في غزة منذ أكتوبر 2023 لا يمكن وصفه إلا كجزء من سياسة تهجير قسري ممنهجة تنتهك القانون الدولي.
ففي تقريرها “Hopeless, Starving, and Besieged”، أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن إسرائيل تسببت في “النزوح القسري الواسع والمقصود” عبر تدمير منازل المدنيين وإنشاء “مناطق عازلة” و”ممرات أمان” تؤدي فعليًا إلى إخراج السكان من أرضهم. وجاء في التقرير أن “عمليات الهدم والإخلاء لا تبدو تبعات جانبية للحرب، بل سياسة متعمدة قد ترقى إلى جرائم حرب”.
وتتوافق هذه الرؤية مع تحذيرات الخبراء القانونيين والأمم المتحدة الذين شددوا على أن أي نقل للسكان حتى تحت مسمى “اختياري” يظل باطلاً إذا جرى في ظروف قهرية، معتبرين أن ذلك خرق واضح لـ “اتفاقيات جنيف” و”القانون الدولي الإنساني”.
وأكدت منظمات أممية أن استمرار النزوح الجماعي وانعدام الحماية يشكّل تهديدًا خطيرًا، وأن إجبار الفلسطينيين على الخروج تحت القصف والضغط العسكري يمكن أن يُصنَّف كجريمة حرب أو حتى جريمة ضد الإنسانية.
مستقبل القضية وسط التحديات
الوضع الراهن يعكس تعقيدات كبيرة: عدوان متواصل على غزة، محاولات إسرائيلية لفرض واقع جديد بالتهجير، وضغوط دولية على مصر والأردن، مقابل إصرار مصري على حماية أمنها القومي ودعم الفلسطينيين.
وفي ظل غياب أي أفق سياسي حقيقي، تبدو الأزمة مرشحة لمزيد من التصعيد ما لم يتحرك المجتمع الدولي لوقف العدوان وإحياء مسار حل الدولتين.
اقرأ أيضا: