“بلقيس والرسولة المذبوحة: العرب بين الغدر والخيانة الذاتية”
"اغتيال بلقيس واغتيال الأوطان: نزار قباني يكتب ما زلنا نعيشه"
بقلم الناقد خالد محمود
قصيدة “بلقيس” لنزار قباني، واحدة من أعمق وأجرأ المراثي السياسية-العاطفية في الشعر العربي الحديث. وهي ليست مجرد رثاء شخصي لزوجته بلقيس الراوي، التي قُتلت في تفجير سفارة العراق في بيروت عام 1981، بل هي تشريح جريء لواقع أمة فقدت بوصلتها، وخنقت صوت الحياة، واغتالت كل ما هو جميل، بدءًا من النساء وانتهاءً بالقصائد.
في القصيدة، “بلقيس” ليست فقط الزوجة، بل هي رمز للحضارة والأنوثة والحرية والجمال. وعندما يُغتال هذا الرمز، يُغتال معه كل ما يمثل التوازن الإنساني في المجتمعات العربية. نزار يستثمر في المأساة الشخصية ليكشف عن النكبة الجمعية.
واليوم، لا تزال المرأة تُستهدف في ميادين السياسة والحرب والثقافة؛ تُغتصب في غزة، تُستعبد في اليمن، تُسجن في بعض دول العرب لمجرد التعبير أو الدفاع عن حقوقها. ما تغيّر؟ لا شيء تقريبًا. القصيدة كُتبت منذ أكثر من 40 عامًا، لكنها تصف اليوم بدقة مذهلة.
العروبة والقتل الذاتي:
نزار يقول بمرارة:
“إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عربٌ..” ويأكل لحمنا عرب .. ويبقر بطننا عرب.. ويفتح قبرنا عرب.
ان هذا بيت يلخّص المأساة المستمرة. ما يحدث اليوم في أكثر من بلد عربي – من سوريا إلى السودان، من غزة إلى لبنان – هو صراع داخلي يقتل فيه الأخ أخاه، ويغتال فيه الحاكم شعبه، ويبارك فيه الجهل اغتيال العلم، ويصفّق للرداءة حين تذبح الجمال.
نحن نعيش، كما قال نزار:
“ندخل مرةً أخرى لعصر الجاهلية”
نقد ناري للسلطة والنفاق السياسي:
نزار لا يكتفي بالرثاء، بل يوجه اتهامات صريحة للنظام العربي الرسمي، فيقول:
“سأقول إن عفافنا عهرٌ .. وتقوانا قذارة”
“وأقول : إن نضالنا كذبٌ .. وأن لا فرق .. ما بين السياسة والدعارة !!”
هذه الجرأة، التي ربما صدمت البعض وقتها، أصبحت الآن أوضح وأكثر فجاجة: كيف يمكن تفسير أنظمة تطبّع مع المحتل وتخنق شعوبها في آن؟ كيف يُمنع الشعراء من الكلام بينما يُفتح المجال للفساد والدعاية؟
. موت الرموز = موت المعنى:
بلقيس رمز، وموتها يعني موت ما تبقى من معنى في الحياة العربية. ولذلك يقول:
“الشعر بعدك مستحيلٌ .. والأنوثة مستحيلة”
اليوم، حين تُقصف غزة وتُحرق الخرطوم وتُجفّف أنهار العراق، لا نجد رموزًا تُبقي على الأمل. تم تجريف الثقافة، وتكريس الرداءة، حتى أصبحت الأوطان باردة، مشلولة، وكأنها لم تعرف يومًا طريق الشعر أو الحياة.
في فلسطين: تُقتل بلقيس كل يوم في عيون أطفال غزة، وفي صراخ الأمهات تحت الأنقاض.
في لبنان: الفساد نفسه، والسلاح نفسه، ما زالا يحكمان – لا فرق كبير بين من قتل بلقيس ومن يغتال الحلم اليوم.
في السودان واليمن وسوريا وايران: تتكرر مأساة بلقيس، بصور أبشع وأكثر عشوائية.
في الإعلام العربي: تُغتال “القصيدة” يوميًا، عبر التعتيم، والسطحية، والانحطاط الثقافي.
قصيدة “بلقيس” ليست فقط مرثية لحبيبة، بل هي وثيقة اتهام تاريخية لأمة تنهش نفسها.
ما كتبه نزار قباني في الثمانينيات هو نفسه ما نعيشه في 2025، وكأننا لم نتقدم خطوة.
لقد أعطانا نزار مرآة ناصعة نرى فيها وجهنا العربي المشوه، لكنها أيضًا دعوة: أن نحاول، ربما، إنقاذ ما تبقى من الشعر، من الحب، من المرأة، من الوطن.
بلقيس قتلت، نعم… لكن هل يمكن أن نمنع مقتل بلقيس القادمة؟
القصيدة تقول: لن يحدث ذلك ما لم نقتل “أبا لهب” الذي يسكن فينا.
اقرأ للكاتب:
حنين الشاعر وشبابه الضائع: تحليل قصيدة ‘يا جارة الوادي
الآبائية والكهنوت في ميزان الفكر الحديث: حوار مع الكاتب المغربي يوسف هريمة
التعليقات متوقفه