«شخصية مصر» من منظور الجغرافي الذي اغتالته عبقريته والذي تنبَّأ في الستينيات بالصراع على المياه بين مصر وأثيوبيا

0 1٬395

بقلم أ.د/ جودة مبروك محمد

جمال حمدان جغرافي مصري، يُوصَفُ بأنه جعل عامة الناس يقرأون، ويتغنَّونَ بحب مصر، إنه يمثِّل في كتاباته ذاكرة المكان والمكانة، فقد تخطَّى حدود علم الجغرافيا، والتقى بحياة البشر وتفاصيلها في شؤون الثقافة والسياسة والاقتصاد والعمران والسكان.

إن نجاحه جعل أعداءه يحاربونه، وأقاموا عليه الحيل لإبعاده عن الساحة، حفاظًا عن الكرسي الأحمق والمنصب الأعمى، وكأنه يردد مقولة طه حسين في أحد إهداءاته: «إلى الذين لا يَعْمَلُون ولا يسرُّهُم أن يعمل الآخرون»، فقد استقال من الجامعة، واختار مكتبته وقلمه في الكتابة، واعتزل حياة الناس، فأبدع أيَّما إبداعٍ، وتنبَّأ بمستقبل العالم في صورة خريطة واضحة المعالم، لكنها تحققت على مرِّ الزمان، تنبَّأ في أواخر الستينيات بتفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1968م، وقد تحقق عام 1991م، وتنبَّأَ بتفكيك الولايات المتحدة الأمريكية، وها هي ذي تأخذ الخطوات نحو ذلك، وتنبأ بزحف الاستعمار لاستغلال النفط العربى، لقد مزج بين علمه باستشراف مستقبل الأشياء بناء على القراءة الجيدة ورصد المتغيرات مع ما سبقها من حلقات الأحداث الماضوية.

تميز جمال حمدان بانطلاقته من أنَّ الجغرافيا هي التباينُ الأرضيُّ من حيث اختلافُ أجزاء الأرض إلى كونها تمدُّنا بقدرة التعرُّف على شخصيات الأقاليم، فهو باحث عن عبقرية المكان، أو روحِهِ وما يمنحُهُ للبشرِ، فيصطبغون به، ذلك منهجه المفضَّل في دراسته لذلك العلم، أو ما أطلق عليه «سوبر- جغرافيا»، فالجغرافيا هي ظلُّ الإنسان على الزمان، كما أن التاريخ ظل الإنسان على الأرض، أو جغرافيا الحياة اليومية، أو جغرافيا الحياة، تلك إذا عرفتها عرفت كل شيء عن نمط وطبيعة وظروف وقوانين الحياة في هذا المكان أو ذاك، وينتقد تقصيرنا في حق بلادنا، فيلوم جهل المصريين بمصر، فلم يوجد في عصره كتاب عنها، يقول: إن أقل مَنْ يعرفُ عنْ مصر-ونقولها ولا نخاف- المصريون، على حدِّ تعبيره.

ومن أهم كتبه: «شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان»، ومن أول وهلة تستشعر لديه الحسَّ الأدبي، فاختيار الألفاظ فن، حتى وإن كان يكتب في الجغرافيا، فقد امتلك اللغة والقدرة على تنسيق الجمل والعبارات وربطها ببديع الدلالات وعمق المعاني، مع انتخاب الألفاظ الرصينة الجذابة بكونها الوعاء الذي يحمل الفكر.

لقد جمع الكتاب كثيرًا من سمات سمات الشخصية المصرية، ومن أبرزها أنها تمثل المركزية الصارخة التي توغل في القدم كقدم الأهرمات، وشدَّد على ضرورة تجاوز الحديث عن المزايا إلى التركيز على عيوبنا بشجاعة، يقول: كفانا إذن حديثا عن مزاينا ومناقبنا، فهى مؤكدة ومقررة وهى كفيلة بنفسها، ولنركز من الآن على عيوبنا، لننظر إلى عيوبنا فى عيونها فى مواجهة شجاعة، لا لننسحق بها ولكن لنسحقها! لا لنسىء إلى أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا ، تلك الشجاعة التي اتسم بها جعله ينقد أوضاعًا في السياسة المصرية وفي تخلي الأمم المتحدة عن نصرتنا يرى أن الرد الوحيد الآن أمام الدول المقهورة هو تحطيم الأمم المتحدة بالخروج منها نهائيًّا بالجملة إلى أن يتم إنشاء منظمة غير إجرامية.

ويبرز حمدان شخصية مصر في احتياجها إلى ثورة نفسية على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانيًا، لإحداث تغيير جذري في العقلية والمثل وأيدولوجية الحياة، يريد ثورة في الشخصية المصرية على الشخصية المصرية، ذلك هو الشرط لتغيير شخصية مصر وكيانها ومستقبلها، إن مشكلة العرب بما فيها مصر عبر عصورهم الحديثة أنهم يفكرون بعيدًا عن عقول المثقفين، وينحازون إلى رؤى السياسين بنظرةٍ أحادية محضةٍ، على اعتبار أن الساسة هم أصحاب القرار في المجالس ، لكن الحقيقة في الواقع وبدون مجاملة أو خداعٍ أو تزييف للرأي تكمن في عقول علماء مصر، فليتنا نرى تكاملاً وتوحدًا بين هؤلاء وهؤلاء، فالمفكرون الحقيقيون قلةٌ، ووضعهم أعلى الهرم، واتخاذ أي قرار يتطلب شخصًا حاملا للفكر، وقد وصفه بأنه الذي يمتلك ثلاثة أشياء: العلم والفلسفة والفنّ.

ويبحث في عبقرية المكان فيذكر أن مصر تستمدُّ أساسها الطبيعي من عنصرين جوهريين: الموضع والموقع، الموضع هو الوادي المعمور المزروع بموارده وإنتاجه، والموقع يتمثل في قناة السويس، فمصر موضعًا دولة مهر، وموقعًا دولة برزخ، والنيل ومصر خَلَقا الحضارة، والمتوسط ومصر نشراها، وقديمًا أعطت فسطاط مصر اسمها للملابس فكان «الفُسْتان»، وربما كانت لعبة التِّنِس من «تنيس» القديمة.

ويذهب إلى أن مصر بوابة مشتركة لإفريقيا وآسيا، والمدخل الطبيعي لكليهما، فليست ليبيا الصحراوية ولا المغرب الجبلي، والنيل هو النهر الوحيد الذي يمتد عبر القارة السمراء، فبفضله تكتسب مصر طبيعة المدخل وتصبح الدهليز الوحيد إلى قلب القارة.

ويعدِّدُ جمال حمدان عبقرية المكان في شأن قناة السويس ، فيراها قد اختزلت كل موقع مصر الجغرافي ، وأنها جددت شباب موقعنا، وأصبحت بوابة ذهبية تجاريًّا فالبقناة أصبح موقع مصر أخطر موقع استراتيجي في العالم.

ومن حسن قراءته للمستقبل تبؤه بالصراع المائي بين مصر وأثيوبيا، الذي تحقق في 2011م، وقد كان له موقفه من تلك القضية وغيرها في مقولته: مصر اليوم إمَّا أن تحوز القوة أو تنقرض ، إمَّا القوة وإمَّا الموت ، فغدًا إن لم تصبح مصر قوة عظمى تسود المنطقة فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما كالقصعة: أعداء وأشقاء و أصدقاء وأقربون و أبعدون.

وتظهر إسرائيل عنده على أنها أهم محدث للصراع في المنطقة بما فيها العمق الإفريقي بمعاونة الصهيونية العالمية، وأنها تفعل ما يمكنها من السيطرة على الشرق الأوسط، فيتهم جمال حمدان العرب بالتخاذل في اتخاذ موقف ضدها بقوله: طلبت الصهيونية العالمية دولة لليهود بفلسطين؛ فأسسها لهم العرب، ويبرز تمسك إسرائيل بالقدس، فيقول: إذا قال اليهود لا معنى لإسرائيل دون القدس فنحن نقول لهم: لا معنى للعرب دون فلسطين.

تحدث جمال حمدان عن مشروع «سدِّ النهضة» في ستينيات القرن الماضي، ذاكرًا ومحذرًا من أن بناء سدٍّ يمثل خطورة كبيرة، فإن الأبحاث العلمية المستفيضة تؤكد أنه من المستحيل فيزيقيًّا وتكنولوجيّا أن يعترض عدو أو غير عدو مهما حاول توقيف مياه الفيضان الموسمية الكاسحة المندفعة، إذ يصيب نفسه بالغرق المدمِّر والاكتساح قبل أن يصيب مصر بالجفاف، ذلك أن مياه أنهار الحبشة في أثناء الفيضان تكون محملة بحمولةٍ غزيرةٍ وكثيفةٍ مِنَ الطَّمْيِ، بحيث يستحيل تخزين هذه المياه حينذاك، وأي سدٍّ يُقامُ لذلك سوف يَنْطَمِي وينسدُّ تمامًا بالطمي في سنوات معدودة، يفقد بعدها سعة التخزين كليّةً ويحيل الماء عليه إلى طوفان مُغْرِقٍ مُهلكٍ، وإلاَّ فإنَّ عليه أن ينتظر إلى آخر نهاية الفيضان بعد أن تكون حمولة الطمي قد تصرفت. ويعود إلى الدفاع عن حصة مصر المائية من النيل بقوله: «مياه النيل تتجه إلى مصر كظاهرة طبيعية، وقامت عليها حياة بشرية كاملة، قبل أن تعرف المنابع العُليا للنيل السكنى المستقرة المنظمة في أي صورة«، فقد سبق أن في خلال الفترة 1190-1225 أعلن الإمبراطور الإثيوبي اليبيلا حربه الصليبية على المسلمين في مصر، فهدّد بتحويل النهر عن مساره الطبيعي حتى لا تصل كمية المياه المعهودة إلى مصر، وكذلك في عام 1913م بزغت فكرة بريطانية بشأن إنشاء خزان مياه لبحيرة تانا الإثيوبية، التي دخلت حيز التنفيذ عام 1927م، حينما بدأت إثيوبيا مفاوضات لإنشاء الخزان مع شركة هوايت الهندسية الأمريكية دون التشاور مع مصر، ومثل هذه العمليات لها اتجاهات سياسية للضغط على مصر، يقول: اتخذ الاستعمار من مياه النيل أداة للضغط السياسي والمساومة الاستعمارية يُرغم بهما مصر على الخضوع له، وهو ما ينسجم مع ما قاله الرحّالة الإنجليزي صامويل بيكر: إن العرب قد شربوا من هذه الآبار (النيل) منذ آلاف السنين، فإذا أقمت قلعة تُسيطر على هذه الآبار يصير العرب تحت رحمتك، لا مياه لا عرب.

مات جمال حمدان قهرًا وظلمًا من المجتمع بفعل عبقريته بعد عزلة له في شقته على مدى ثلاثين عامًّا، لتعلن نشرات الأخبار عن احتراق عالم مصري في شقته، مع الشك في يدٍ غادرة قد نالته بعدما أثبت الطبيب الشرعي أن الحرق ليس بالدرجة التي تسبِّب الوفاة، مات بدون أن يترك وراءه ولدًا أو زوجة، ولكن ترك إرثًا علميًّا ورؤًى في مستقبل العالم.

اقرأ للكاتب
بمناسبة إعلان المجلس الأعلى للجامعات عن خُلُوِّ مَنْصِب رئيس جامعةٍ لثمانيةٍ منها

«نحو تأسيس عصر دينيٍّ جديد»: رؤية نقدية

Visited 2 times, 1 visit(s) today
اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق