تراثنا العربي بين التهميش و التقديس
بقلم – الدكتور عماد عبد الرازق
يعد مفهوم التراث من المصطلحات التي أحدثت تباينا و اختلاف في فهمه و تفسيره و تأويله ودراسته بين الأوساط الفكرية و الفلسفية و الثقافية العالمية و العربية. ومن هنا فأن التراث في كل أمة يعد من الضروريات لتقدم الأمة وعدم الاهتمام به يعد عقم في مستقبل الأمم فهو له أهمية كبيرة و عظيمة لأي أمة من الأمم يعطيها الشخصية الاعتبارية، فهو بمثابة الأصل لأي ثقافة أو مجتمع بشري ،وقديما قالوا ما لا ماضي له لا حاضر له. إذن لأبد للإنسانية أن تهتم بتراثها و أن تحافظ عليه. لأنه هو عقلها ودمها الذي تحيا به بين الأمم وجماع خصائصها الحضارية و النفسية فالتراث منجزا فكريا تمثل في الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها التاريخ كاملة أو مبتورة كما أنه يمثل مادة بناء العقل و تكوينه ،فهو جوهر الهوية و مجمع العناصر الوراثية المنسربة في نفوسنا و تقاليدنا جميعا، أنه أغلى الكنوز. وبناء على ذلك تعتبر الأمة العربية الإسلامية أغنى الأمم على الإطلاق بتراثها المعرفي إبداعا و جمعا و نقلا و تحقيقا، إلا أن هذا التراث العربي العظيم تتفاوت أحوال الناظرين إليه، فالبعض يرى أنه شيئا مقدسا يحرم المساس به ،ولا يجب تغييره أو نقده أو حتى الاقتراب منه. و البعض الآخر يتحفظ عليه مطالبا بضرورة قطع الصلة به كلية ،والانطلاق من معايير جديدة تمكن من إثبات الذات في حيز الوجود. كما يروا أن التراث عقبة في سبيل التقدم. وما بين هاتين النظرتين من تقديس التراث و الاستهانة به هناك وجهة نظر ثالثة سوف نوضحها من خلال مقالنا.
أولا منطلقات أساسية : من الواضح أن التراث العربي باعتباره ثقافة إسلامية لا يتعلق بحصيلة الإبداع في الفكر و الآداب فحسب، و إنما يشمل حقول الصنائع و الأعمال اليدوية و سائر المهن، وأيضا مظاهر الحياة الاجتماعية في أبعاده المختلفة .ومن الحقائق المؤكدة التي لا تقبل الشك أن التراث العربي قد شكل على الدوام ثروة لامادية مؤهلة للإسهام في نهضة العرب و المسلمين.
ثانيا: المواقف المتباينة من التراث : لقد تعددت المواقف و النظريات في موقفها من التراث و انقسمت في هذا الشأن إلى ثلاث مواقف أو تيارات أساسية: التيار الأول– جاء موقفه من التراث متأثرا بالنظرة الغربية و التي وضعته في ثنائية التراث و الحداثة ،وهي الثنائية التي تنتصر للحداثة على حساب التراث، وترى أن التراث يمثل عائق و عقبة كئود في سبيل التقدم و الحداثة ،لذا يجب التخلي عنه وتركه،ولا نكترث به ،لأنه يمثل الماضي في كل صوره و أشكاله،ولا يجب أن نسجن أنفسنا في الماضي ،ولا نكون بمثابة حانوتية لهذا التراث،نحنطه و نستحضره في حل قضايا العصر الراهن. فالماضي لأهله الذين عاشوا فيه . فالتراث الفكري في عصر معين مثلا العصر الأموي أو العباسي هو عصر خاص بهؤلاء الذين عاشوا فيه ،لا يمكن استحضاره و تقمصه في حل مشكلات و قضايا معاصرة. لأن ما يصلح للسلف ليس بالضرورة يصلح للخلف. فالتراث بالنسبة لهولاء أشبه بثوب قديم بال لا يصلح الظهور به على مسرح الأحداث المعاصرة. ويجب أن نشير في هذا السياق إلى أن هذا التيار يختزل أزماتنا و معضلاتنا في تراثنا و تاريخنا،ويصورهما كأنهما السبب الرئيس و الوحيد لهذه الأزمات. وهذا ما يسمى ازدراء التراث و الاستهانة به ،وهو يمثل داء وبيل يطمس الطرق المؤدية إلى العلم و الفهم. لذا يرى محمود شاكر أن ذم التراث و الاستهانة به كان أول صدع في تراث الأمة العربية و الإسلامية ،وأول دعوة لإسقاط تاريخ طويل ،وظلت الاستهانة باقية الأثر في الناس إلى اليوم،حتى وصلت في بعض المناطق إلى اغتياله ماديا و معنويا.ومن جانبنا نقول بلا شك هناك الكثير من الجوانب المتخلفة و المظلمة في تراثنا يجب التخلص منها والاستغناء عنها،ومع ذلك فهذا الموقف ينطوي على فهم قاصر و خاطئ ،فليس التراث هو السبب الوحيد لكل أزماتنا و مشاكلنا ،بل هناك أسباب عديدة و متنوعة و معقدة لأزماتنا ،وهي في كل الأحوال أعمق من هذا.
التيار الثاني: موقف التقديس للتراث و هو ما يسمى الموقف التقليدي من التراث ،والذي يدافع بكل قوة عن التراث و يراه النموذج الوحيد و النهائي لحياة المجتمع العربي الإسلامي ،لذا يجب العودة إليه بكل تفاصيله و أشكاله. وهم ما يطلق عليهم حانوتية التراث ،يريدون تحنيط ما هو قديم ،وبث و بعث الحياة فيه، وجعله مشخصا يسير على قدميه لحل مشاكلنا المعاصرة. ومن هنا يقدس أنصار هذا التيار التراث بشكل مطلق و يحرم المساس به أو انتقاده، وفي هذا المسعى يطمس أو يزيف الكثير من الحيثيات و الجوانب المظلمة من تراثنا العربي الإسلامي في محاولة لإعادة كتابهما تفاديا للكشف عن الحقائق و تغطية جوانب الاستغلال و الاضطهاد و القمع التي مارستها السلطات خلال حقب عديدة من التاريخ العربي. ويجب أن نلفت الانتباه أن هذا التقديس للتراث لا يتأتى بالضرورة من باب الفهم أو الدفاع عن التراث ،بل على العكس فأن الكثير من أصحاب هذا الرأي يعادون التراث و قلما يفهمون قيمته و أبعاده التاريخية. و تؤكد لنا التجارب التاريخية أن هولاء يدعون تقديس التراث من أجل حماية مصالحهم و أيديولوجياتهم ،ويعملون على تغييب الجوانب الايجابية و الثورية التقدمية منه،وكثيرا ما حاربوا ومازالوا من يعمل على إضاءة هذه الجوانب.خذ مثلا القرامطة و إخوان الصفا على سبيل المثال لا الحصر.
التيار الثالث: يطلق عليه تيار الإصلاح ،ويرى في التراث جهد بشري أنتجه رجال مثلنا،لذا يمكن التعديل فيه و تغييره و والإضافة إليه،بل ونقده و تمحيصه، لذا أزالوا عنه القداسة و خلعوا عنه التقديس. وينطلق هذا التيار من رؤية معرفية منهجية قائمة على التفرقة بين التراث الذي هو جهد و إنتاج بشري وجهد مرتبط بظروف وأحوال معينة،وبين التراث كشيء مقدس لا نستطيع تغييره أو الإضافة إليه أو الانتقاص منه. و يحاولون الوقوف موقف وسط و معتدل بين الرؤيتين السابقتين، يحاولوا ألا يقدسوا التراث و في الوقت نفسه لا يهملوه و لا يتركوه بالكلية، بل الأخذ منه ما يتناسب مع ظروفنا و قضايانا المعاصرة، يحاولوا أخذ ما يصلح لنا في الوقت الراهن و ترك ما لا يصلح. هذا التيار ينظر للتراث نظرة معتدلة موضوعية ليس فيها مغالاة أو تبسيط .
خلاصة القول أن التراث يمثل ذاكرة أي امة و هو القوة الدافعة لاستنهاض قدراتها،لذا يجب الاهتمام به . و أن نقف منه موقفا معتدلا و موضوعيا لا نبالغ في تقديسه و التمسك به و سجن أنفسنا في الماضي، وعدم الخروج منه،ولا نحاول أن نطبق مشكلات التراث على قضيانا المعاصرة و نستلهم الحلول من الماضي. و في نفس الوقت لا نهمله و نتركه كليا و نستهين به، و نسخر منه. بل يجب أن نقف موقف معتدل متوسط نأخذ من التراث ما يفيدنا في حل القضايا المعاصرة، نأخذ منه ما يتفق مع عاداتنا و تقاليدنا و ما يتفق مع توجهاتنا.
دكتور/عماد عبد الرازق-أكاديمي مصري أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة بني سويف