أ.د/ جودة مبروك يكتب:العودة والحنين بين رواية دعاء الكروان ورواية زهرة الثالوث
بقلم :أ.د/ جودة مبروك
جِسْرٌ مِن بُنْيانٍ قَويمٍ تَعبرُ عليه الإنسانيّاتُ السامية، وتتزاحم حوله المشاعر عند أبواب النجاة، إنها قضية البشر جميعًا، ذاك هو الرباطُ المقدَّس الذي يتخفَّى وراء عاطفة الرجل والمرأة، لقد أعلنت كلتا الروايتين: دعاء الكروان لطه حسين وزهرة الثالوث تأليف ثلاثة أدباء هم أيدا تازجان وسمية أزيل وفيراي شاهين تعلُّقًا وحنينًا بين الخصوم بفضل ترنيمات الحنين العاصفة، فتُذيبُ جمود الحقد وغرور النفس، وتمنح المحبين شمسًا دافئة ونهارًا جديدًا، بديلاً عن حالة الظلام الروحيّ المتخفِّي وراء الأجساد الغليظة التي لم تصل إلى حقيقة الإنسانية:
إنَّ نفسًا لم يُشرِقِ الحبُّ فيها هي نفسٌ لم تَدْرِ ما معناها
أنا بالحُبِّ قد وَصَلْتُ إلى نفسي وبالحبِّ قد عَرَفْتُ الله
تحكي روايةُ دعاء الكروان عن رغبة آمنة بطلة في الانتقام لأختها هنادي، التي حملت سفاحًا من المهندس التي تعمل خادمة عنده وقد جرَّها القدر إلى الوقوع في حبه، فتُقْتلُ أمام أختها وأمها، ما يدعو آمنة للانتقام من المهندس، فلا تقوى وتقع هي الأخرى في حبه.
أما رواية زهرة الثالوث (زهرة الثالوث رمز للذِّكْرى عند الأوربِّيين) فتحكي عن قصة ميران الذي وُلِدَ يتيمًا وربَّتْه جدَّتُه، وقد زَرَعَتْ فيه روح الانتقام لوالديه اللَّذين قُتِلا على يد عائلة بطلة الرواية “ريان”، وعندما كَبُرَ أراد الانتقام من عائلة شاد أوغلو، فتزوَّجَ ريان شاد أوغلو بغرضِ الثأر، لكنه وقع في حبِّها مثل آمنة في دعاء الكروان، إلا أن جدَّته ذكَّرتْهُ بمقتل والدَيْهِ، فتركها في اليوم التالي، لكن لم يُطاوِعْهُ قلبُهُ بفعل ذلك فعاد إليها، فتبدأُ قِصّة العشق في بيئة الكُرْهِ وأرض الحقدِ، لكن ريان لا تسامحه بسهولة على ما تعرَّضَتْ له مِنْ أذًى وتشويهٍ لعائلتها، وهي ترى أنها لا تستحق كل هذا، فقد أحبته في بداية العلاقة، غير أنها لم تدرك أنها ستتعذب بحبه، كم لم تدرك الشمعة أنها احترقت لأنها احتضنت الخيط.
إن الفارق بين الروايتن ليس في زمن الكتابة فقط أو حجم العمل، بل في نوع الانتقام الذي بُنيت على أساسه أحداث الرواية المتصاعدة، ومن حيث إن الكاتب للرواية المصرية رجل، وللرواية التركية امرأة، ويبدو أن هذا كان له تأثير في ظهور إسقاطات الكاتبة على الأحداث وقدرتها على سرد التفصيلات النفسية والمشاعر الرومانسية، فآمنة في دعاء الكروان تكلِّف قلبها ليقتل البطل مصدر الشرِّ في الرواية، وفي زهرة الثالوث يقع ميران بطل الرواية في الحب، فبدلاً من أن يثأر لوالديه من عائلة أوغلو يعيش اللحظة الهامسة مع الفتاة المراد تدميرها وويحاول إلحاق الأذى بها في شرفها.
وبتطور الأحداث نكتشف نظرة البطل إلى الحياة على أنها غدٌ بدون اليوم، على حين أنها اليوم بدون الغد عند البطلة، فلا أمل لها سوى الخلاص والسير تجاه الموت، وتختلف حقيقة معرفة الواحد منه للآخر، فترى القبيلةُ البطلة شخصًا وهو يراها روحًا، وفي حين تراه ريان الغادر والمخادع.
تشترك الروايتان في دوافع الانتقام من حيث الدفاع عن الشرف، وإن زاد الأمر في زهرة الثالوث ليكون المبرر تحقيق الثأر مع الشرف، لكن يتفوق طه حسين على نفسه في امتلاكه للغة، وإن لوحظ اختفاؤه وراء شخصيات الرواية، فأصبح يتحدث بديلاً عنها، وفي زهرة الثالوث تنهمر المشاعر وتتساقط الدموع، ويبدو أن العاطفة ليست رواية شرقية في ختامها يتزاوج الأبطال، ولكنها الأمان والدفء والحماية، وإن عاش البطل غربةً مِنْ نوع خاص، أحد أسبابها أنه أكثر وعيًا ممَّن حوله ، فلم يحظ في ثنايا سطور الرواية بتقدير مجتمعه، ولا بتقدير حبيبته، فكلاهما ينظر إليه على أنه خائنٌ، وهو يزعم أنَّ عائلته مخطئة في الإصرار على أحقية الانتقام وعدم الرغبة في التسامح والتعايش مع الآخر، خاصة أن حبيبته لا تدرك تجربته الخاصة مع قسوة الحياة وعنف القبيلة، في حين تمسكه بقداسة الحب مع ريان، إذ تدور فلسفته في فلك أن الحياة بدون النبض لا تكتمل، فالحبيبة رغم كل شيءٍ حاضرة في النفس والعقل، ولا يملك لغة تعبيرية عما في نفسه سوى دموعه التي لا تكفُّ عن البكاء الجارف، فدمعةٌ منه تساوي عمرًا، لما له من شخصية قوية، وربما كانت الكلمات التي كان عليه أن ينطق بها كانت قاسية على الروح، فنظرة واحدة منه تختصر الكثير، فيذكر لمحبوبته أنه يكفيها أنها منحته السعادة والحب ولو ليوم واحد، وذلك كان المبرر عند نسيانها.
يظهر ميران في بداية التعلق يعنِّف نفسه ويلوم ذاته، فأقام على رصيف الانتظار وكأنه يهمس للطامحين : لا تحبُّوا من أعماق قلوبكم، فإن من يسكن القلب يبقى دائمًا فيه لا يخرج، يحاول النسيان فلا يستطيع، فهو يدرك أنه يكفيه قلب واحد عن عالمٍ البشر، فكان قلبه خارجًا عن السيطرة ولكنه صادق في حمل مشاعره، وإذا بنا أمام تجربة تشبه قصة قيس بن الملوح مع محبوبته ليلى وهو ينشد:
ألستَ وعدتني يا قلبُ أني إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوبُ؟
فها أنا تائبٌ عن حبِّ ليلى فما لكَ كلَّما ذُكرت تذوبُ؟
أما ريان فقد أدركت أنها وقعت فريسة لأسباب مجهولة لها، فأيقنت أنها أساءت الاختيار، ويترجم موقفها قول الشاعر:
واخْتَرْ خليلَ قلبِكَ بحكمةٍ فليستْ كُلُّ القلوبِ بالقلوبِ تَلِيقُ
وتتفق شخصية آمنة بطلة دعاء الكروان مع شخصية ميران بطل زهرة الثالوث في لغة الصمت المحيِّرة في إخفاء الحقيقة، إلا أن آمنة تخبِّئها من أجل تعزيز الانتقام، ويُخْفِيها ميران وكأنه يؤمن بفلسفة ساموراي أن الحديث مع الآخرين يحتاج جهدًا ما عاد يمْلكُه.
تمتلئ رواية زهرة الثالوث بالمشاهد الرومانسية التي تتدفق فتملأ الكون بهجة، وكان التعبير عنها بالصوت والصورة معًا، كما في كلمات الأغنية التي استمع ميران ورياغن إليها في النهاية، والتي تقول: “لقد زينت شبابي كعروس ورفعت صدري ومحوت سنواتي بدونك، واشتريت لك عمرًا جديدًا، أنت تتوق للضوء وأنا أتوق إليك، تعال فناري تذيب الحديد”.
وتختلف نهاية رواية دعاء الكروان عن الفيلم الذي أخرجه هنري بركات، إذ يَنْتصر الحب في الرواية، ويحتفل البطل والبطلة، وهو الشيء ذاته في زهرة الثالوث، أما في الفيلم السينمائيّ فيعاقب البطل بإصابته برصاص خال البطلة. وتنتهي رواية زهرة الثالوث بولادة مبكرة لريان من زوجها ميران لابنتهما شمس الصغيرة، الاسم الذي يُوحِي بالأمل وجديد الحياة، وينكشف عنه البؤس والشقاء، وقد كتبت له تخبره فيها أنها لم تشعر بالحب أبدًا إلا عندما رأته، وقد انتهت كل خلافات ريان مع العائلة وانتهت رغبته في الانتقام.
اقرأ أيضا للكاتب:
أسألك الرحيلا بقاء رغم الرحيل
جامعة الوصل بدبي تستضيف المؤتمر الدولي الثالث حول “المعجمية العربية والدراسات البينية”
روايه جميله جدا
شي جميل للغايه