“البربرية والآخر: حين يصنع الإنسان حدود الحضارة”
"من بربر إلى غريب: تأملات في مرآة الحضارة"
كتبت : بريجيت محمد
من البربرية إلى الغيرية: كيف يصنع الإنسان حدود الحضارة
حين صاغ الإغريق القدماء مصطلح “بار بار“، لم يكونوا بصدد تعريف مجرد صوت غريب أو لغة مجهولة، بل كانوا يضعون اللبنة الأولى لمفهوم بالغ العمق: الغيرية. كان وقع الكلمة نفسها – صوتيًا – محاكاة ساخرة لما لا يُفهم، لما لا يُنطق، لما هو خارج نطاق الحضارة التي يعرفونها ويعرّفون أنفسهم بها.
في البداية، كانت الكلمة تُستخدم ببساطة لوصف من لا يتحدث الإغريقية. لكن سرعان ما أصبحت تختزل رؤية ثقافية كاملة: الآخر الذي لا يشبهنا، الذي لغته تشويش، وصوته اضطراب، وعاداته تهديد لنظامنا وقيمنا. فصار “البربري“ ليس فقط من لا يُجيد لغتنا، بل من لا يشاركنا حضارتنا، وبالتالي هو العدو المحتمل، حامل الفوضى، المتخلف والعنيف والهدّام.
لم تكن هذه النظرة قاصرة على الإغريق. فالرومان، على خطاهم، ربطوا كلمة barbarus بالعدوان والعنف، فغدا البربري نقيضًا للمدني، خصمًا للمتحضر، ومصدر تهديد دائم. الغريب أن هذه الصورة صنعتها الحضارات الكبرى، التي كانت ترى في ذاتها مركز العالم، وتُسقِط على “الآخرين” كل ما لا تريده أن يلتصق بها: الجهل، الانحطاط، الفوضى.
ولكن، في لحظة فارقة من التفكير، جاء الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين ليقلب المعادلة. فقال في إحدى مقولاته البارعة:
“الجميع يعرف البربرية بأنها بربرية ما ليس في عاداته.“
وهنا يكمن جوهر القضية: أن “الهمجية” ليست صفة موضوعية، بل إسقاط ثقافي. فما لا نفهمه نراه خطرًا، وما لا نألفه نحكم عليه بالرفض، ونصنّفه ضمن “الغيريّة” السلبية. لكن، من قال إن الآخر همجي فقط لأنه ليس على صورتنا؟ أليس في هذا ضيق أفق حضاري؟ أليست “الهمجية” التي ننسبها إلى غيرنا، مرآة لانغلاقنا نحن على ذواتنا؟
ما يجعل هذا المفهوم خطيرًا أنه لا يزال يلازمنا حتى اليوم، وإن اتخذ أسماء جديدة: “المتخلف”، “الغير مواكب للعصر”، “البدائي”، وربما “العدو”. نستمر في اختراع صور نمطية للآخر، نحمله كل مظاهر الخوف من التغيير، من التهديد، من الذوبان.
ولعل الأهم هنا، أن نعيد التفكير في معنى “الحضارة” ذاتها. هل هي لغة؟ عادة؟ تقدم تكنولوجي؟ أم هي قدرة على فهم الآخر، والتفاعل معه دون خوف، ودون تقليصه إلى كاريكاتور مشوّه؟
إذا أردنا تجاوز إرث البربرية، علينا أولًا أن نعترف به في داخلنا. في خوفنا من الاختلاف، في ميلنا إلى تحويل الغريب إلى خصم، في رغبتنا الدائمة في تصنيف البشر ضمن “نحن” و”هم”.
فالحضارة الحقة لا تصنعها اللغة وحدها، ولا التكنولوجيا، بل القدرة على أن نكون إنسانيين بما يكفي لنعترف بشرعية الآخر، لا كتهديد، بل كشريك في هذا العالم المعقّد.
اقرأ أيضا للكاتبة:
“نحو فهم متجدد للدين: بين الرسالة الإلهية والتأويلات البشرية”
من نصدق: العلم أم كهنة الأديان؟ بحث فلسفي في التناقض والتكامل
التعليقات متوقفه