بقلم الشاعر الناقد : محمد عبد الحميد عوض
لعل كلمة “دراما” قد صادفتكم في أي زمان وفي كل مكان أينما كنتم وكيفما عشتم، بل لعلني أوقن تمام اليقين، أنها تتخللُ كل حركاتنا وسكناتنا ببساطة هي تفاصيل حياتنا، وما يعتمل فى صدورنا وماتعبر عنه به أرواحنا من مأساوات ومعاناة آنية وحاضرة وماضية ومستقبلية . ولا عجب فالدراما تعني عندي ” هى الصراع” بمعنى هي الصراع بين قوة وقوة، أو بين قوة وعدة قوى ، أو بين عدة قوى وعدة قوى مضادة لها. لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة …..”ماهى الدراما؟” وللإجابة على هذا التساؤل أقول: يُمكن القول باختصار أن الدراما هي تصوير لأحداث خياليّة أو واقعيّة من خلال أدائها عن طريق الحوار المكتوب سواءً كان هذا الحوار من الشعر أو من النثر، ويمكن تقديم الدراما وعَرضها عن طريق الراديو أو التلفاز، ويُطلق في بعض الأحيان على الدراما اسم المسرح.
وقد عُرفت الدراما منذ حوالي 335 عام قبل الميلاد منذ أيام الفيلسوف آرسطو، وكلمة دراما مأخوذة أصلًا من كلمة يونانيّة تتكوّن من شقين أحدهما يعنى المسرحيّة، والشق الثاني يعني القيام بالعمل أو التمثيل، ويُرمز للدراما بالقناعين الأيقونيين وهما الوجه الضّاحك والوجه الباكي، اللذان هما رمزان من رموز الإغريق القديمة أحدهما بإسم “ثاليا” والذي يرتبط بالإبتسامة والكوميديا، والوجه الآخر يُدعى “ميلبومين” والذي يُشير إلى المأساة في الدراما.
ومن أجل جذب الجمهور إلى الدراما الخاصة بهم يسعى كتاب الدراما عادةً إلى بناء شعور بالتوتر المتزايد والمتصاعد مع كل مقطع من مقاطع هذه الدراما، ليبقى الجمهور مترقبًا لباقي الأحداث ويبقى عنده الشغف لإكمال القصة الدراميّة حتى النهاية، ويتصاعد التوتر الدرامي مع استمرار تساؤل الجمهور عما سيحدث بعد ذلك ونتائج تلك الأحداث، وهذا ما يجعل الدراما مثيرة جدًا ومُتَابعة من قِبل الكثير من فئات وأفراد المجتمع؛ فالتوتر الدرامي يتراكم تدريجيًا حتى يتم الكشف في النهاية عن نتيجة مثيرة وربما غير متوقّعة من قِبل الجمهور، كما يُبقي الجمهور في حالة تخمين وترقب شديدين إلى حين الكشف عن الأحداث في نهاية الدراما. ومثال ذلك الملحمة اليونانيّة القديمة التي كانت بعنوان “الملك أوديب”؛ فقد كان هناك الكثير من علامات الإستفهام حول الأحداث القادمة منها وما إذا كان أوديب سيعلم أنه عندما قتل والده تسبب بالطاعون للمدينة؟ وما الذي سيفعله أوديب تجاه ذلك الطاعون؟ وهل سيتخلّص من الطاعون الذي غزى المدينة؟
وغيرها العديد من الأسئلة الشائكة التي حافظت على أعصاب المشاهيدن مشدودة طيلة الملحمة.
لكن على أية حال فإن الدراما تعتمد بشكل أساسي على الحوار المنطوق لكي يبقى الجمهور على إطلاع بمشاعر الشخصيات ودوافعها وخُططها؛ لأن هناك شخصيات في الدراما تعيش تجاربها دون أي تعليقات توضيحيّة من قِبل المؤلف، وغالبًا فإن كتّاب الدراما يَخلقون التوتر الدرامي من خلال جعل شخصياتهم تُقدّم مُناجاة وجوانب جانبيّة للشخصيّة.
نشأة الدراما:
تُستخدم كلمة دراما بكثرة حاليًا للدلالة على الأشخاص الذين يُبالغون في ردود أفعالهم تجاه المواقف الحياتية المختلفة، وقد تكون سمعت هذه الكلمة مرارًا وربما تكون قد استعملتها بنفسك أيضًا.
وفي الواقع فإن الدراما كما في المسرح والمسرحيات قد تغيّرت بمرور الوقت؛ فكلمة دراما قد أتت من اللغة اليونانيّة والرومانيّة لإن الدراما بدأت من هناك أصلًا، وكانت في البداية عبارة عن دراما كلاسيكية التي كانت أكثر من مجرد تمثيل، وإنما كانت رمزيّة للغاية وتتضمن الموسيقى والرقص والشعر ومشاركة الجمهور. ومع انتشار المسيحيّة اتخذ المسرح منعطفاً دينيا، مما فتح المجال أمام المسرحيات الأخلاقيّة في العصور الوسطى، ومع حلول القرنين الخامس والسادس عشر كانت المسرحيات الأخلاقيّة التي كان فيها البطل يجب أن يتغلّب على الشرّ- منتشرة بكثرة في أنحاء القارة الأوروبية. وكثيرًا ما كانت الرموز أداوات مهمة لتمكين الشخصيات والأحداث والأفكار لتجسيد أشياء دون التصريح بها علنًا، وفي الدراما الأخلاقيّة التي ظهرت في البداية كانت الشخصيات الأخرى بمثابة تجسيد للكثير من الأشياء؛ مثل الموت، والخطايا، والفضائل، والملائكة، والشياطين.
والدراما عند ” أرسطو” تتكون من أربعة عِلَل أو موجدات تؤدى إلى حدوثها –لابد من تضامن هذه المسببات لتكوين الدراما وهى :-
عِلَّة مادية material cause
عِلَّة شكلية أو صورية formal cause
عِلَّة فاعلة أو محركة efficient cause
عِلَّة غائية final cause
وحسب هذا المنهج الأرسطى فى تحليل الدراما وتكوينها ـ يتضح لنا جلياً، أن العلة المادية هى نفسها مادة تكوين المنتج الفنى، كما نصنع تمثالاً من مادة النحاس أو الخشب، وكذلك العلة الشكلية هى الفكرة الذهنية المسيطرة على عقل الفنان أثناء الابداع ، كذلك العلة الفاعلة هى قوة الدفع أو الشحنة الانفعالية التى تسوق المبدع لنقل إبداعه من الحالة الفكرية إلى واقع ملموس محسوس.
أما العلة الغائية فهى الصورة أو الهيئة النهائية التى استقر عليها الفنان راضيا بها. وهذه هى الرسالة الحقيقية التى من أجلها يبدع المبدع. نستطيع أن نستشف بجلاء ٍ ووضوحٍ ماهية المسرح الإغريقى من خلال ما سبق طرحه من أفكار منظرة فى المنهج الأرسطى.
أما علاقة الشعر بالدراما فهى علاقة مصيرية قدرية كجناحى الطائر، ولنحاول عزيزى القارئ أن نلقى الضوء على هذا الأمر فى السطور التالية:
ما الشِعرُ؟؟ …
وما أهميتهُ بالنسبةِ لشعوبِ الأرض ؟؟
ولماذا نكتُبُ الشِّعرَ؟؟…
وماالدَّاعى لوجودِهِ ؟…
وهل يُؤَثِّرْ الشِّعْرُ فى المُتَلَقِّينَ له ؟؟ ويُحَرِّكُ سَوَاكِنَ نُفُوسَهُم ..أَمْ …لا …؟
أسئلةٌ عَديدَةٌ تطرحُ نفْسَها بقوَّةٍ على قلوب وعقولِ كُلِّ مَنْ يَعشِقُ البَيَانَ فى العالمِ عامَّةً ومَنْ ينطقون لُغَةَ الضَّادِ خاصّةً، ولايَجِدُ المُمَارسُ لعمليةِ الإبداع أو المُتَلَقِّى لها ، مايَشّفى غُلَّةَ نَفْسِهِ ، ويروى ظَمأَ روحِهِ ، بالإجابةِ على تلك الأسئلة ، التى تبدو فى ظَاهِرِها مَيسُورةُ الإجابة عليها ..، وفى باطِنِها تَستَحِيلُ إلى ما يَصعُبُ على الإنسانِ إدراكُهُ واستيعابُهُ.
ذلك أَنَّ الإنسانَ، فى صراعٍ دائمٍ ، بين ما يَصْبُو إليه ،وبين ماهو كائِنٌ بين يديه من إمكاناتٍ مَادِّيَّةٍ ومعنويَّةٍ ، لِيَجِدَ الإنسانُ نَفْسَهُ بين شِقَّىّ رَحَى ..( وتلك هى الدراما ) فى الحياة ، والتى تُبْنَى على هذا الصراع ، ثم لايجد مُتَنَفَّساً يُفْرِغُ فيه كوامن نفسه ومخزون وجدانه سوى القصائد ، التى بها يستطيعُ أن يعزفَ انشودة آماله وآلامه على قيثارة عالمه الداخلى الرقراق ، ومن أصدق من عَبَّرَ بشكلٍ مُعجِزٍ يصلُ إلى حَدِّ العبقريات- لغتُنا العربية ..، وفرسانها منذ العصر الجاهلى وما قبل الجاهلى وحتى قيام الساعة .. ولا عجب فهى لغة القرآن معجزةُ العرب، وميدان نِزالهم الذي لا يهزمهم فيه أحد .
وقديماً كانوا يقيمون الأفراح ويُعِدُّون الولائم ويذبحون الذبائح إذا ولد فيهم شاعر لأنه بالنسبة لهم ،هو ترجمان القبيلة ، ووزير الثقافة والفنون والإعلام لهم ، وهو لسان حالهم الذى يمجدهم ويخلدهم في تاريخ القبائل كلما عبَّر عنهم وعن عصبيتهم فى قصائده وأبياته ،حتى وصل بهم الحد إلى مقايضة الأشعار والقصائد بكنوز وعطايا الملوك والأمراء .
المسرح الشعرى العربى :-
لقد توجه المسرح القديم إلى إعادة سبك أساطيره الأولى ، فى صورة شعرية ، وكذلك معظم صياغات الدراما المصرية القديمة والآشورية والهندية والصينية واليابانية ، اعتمدت هذه الدرامات الحضارية على الطقوس والأغانى الدينيةوالشعرية . كما ارتبط المسرح العربى فى فترات ازدهاره بالكثير من الظواهرالمسرحية التى عبرعنها المداحون والشعراء الشعبيون فى أداء الكلمة والحركة بالشعر والاشعار العامية فى منطقة عرفت بالريادة المسرحية فى العصر الحديث فى منتصف القرن التاسع عشر، وربما قبله ، من خلال رواده .
وبرغم من أن “مارون النقاش وأبوخليل القبانى ويعقوب صنوع وغيرهم ، قد اعتمدوا على العامية أحياناً … إلا أنهم آمنوا بالشعرية وافتتنوا بالموسيقى وإمكاناتها التصويرية والايحائية وكان ذلك دافعاً لهم للتطلع للامام والعمل بجد ودأب.
ولأن فن الدراما منذ زمن بعيد كان فرعاً من فن الشعر، وهو مايؤكد بديهية تاريخية هنا هى أن هذا اللون من التراجيديا الشعرية ، يظل أنسب الأشكال الأدبية للتعبير عن الهموم العظيمة فى حياة الامم وأكثرها اتصالا بتاريخها القومى ووجدانها الحضارى وطبيعة شعورها بالعالم ، ذلك أن الامم العريقة تجد ذواتها فى التراجيديا الشعرية، وهو ماتؤكده “تجربة المسرح الاغريقى فى القرن الخامس قبل الميلاد وكذلك تجربة المسرح الانجليزى فى العصر الاليزابثى فى المسرح الأوروبى.
الدراسة منشورة ضمن سلسلة رؤى نقدية الصادرة عن مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر.
المراجع:
- كتاب “هل الدراما فن جميل ؟” للدكتور إبراهيم حمادة / سلسلة إقرأ
- كتاب “فن كتابة المسرحية ” للدكتور/ رشاد رشدى
- كتاب تقاليد الكوميديا الشعبية للدكتور/ صالح سعد
- كتاب” الدراما الشعرية بين النص والعرض المسرحى” للدكتور/ أحمد سخسوخ
- كتاب ” لغة الدراما النظرية والتطبيق ل ديفد برتش- ترجمة ربيع مفتاح
- كتاب ” المسرح الشعرى العربى (الأزمة والمستقبل) د.مصطفى عبد الغنى
محمد عوض شاعر وناقد – مصر
التعليقات متوقفه