بقلم د. أمل درويش.
قبل حوالي قرن من الزمان عاش المصريون بمحاذاة نهر النيل يشربون مياهه ويستخدمونها لري مزروعاتهم، ثم ينتهي فصل الصيف بفيضانه الذي يهدم منازلهم ويشتتهم ويغرق زراعاتهم، حتى تم بناء سد أسوان عام ١٩٠٢ فحمى مصر من هذا الشبح المخيف الذي كان يداهمها في كل عام…
ولا يعلق بذاكرتنا من هذه المشاهد سوى بعض اللقطات التي صورتها السينما المصرية القديمة كفيلم ابن النيل ومشاهد الطوفان الذي يبتلع البشر والبيوت..
حتى رأينا هذه المشاهد عيانًا بيانًا في كارثة الفيضانات التي اجتاحت دولة السودان الشقيق مؤخرًا، والتي قد تسببت في وفاة حوالي ١٠٠ مواطنًا، وإصابة العشرات وتضرر أكثر من نصف مليون نسمة، إضافة إلى انهيار ما يزيد عن ١٠٠ ألف منزل..
وذلك بسبب هطول الأمطار الغزيرة على منابع النيل الأزرق في إثيوبيا، وارتفاع منسوبه في بعض المناطق إلى ٢٠,٥ مترًا محققًا مستوى تاريخي لم يتم رصده منذ عام ١٩٠٢ الذي بدأ فيه رصد وتسجيل منسوب المياه في النيل.
وينتظر أن تستمر الأمطار الغزيرة طوال شهر سبتمبر الجاري..
وينقلنا هذا الحادث لأحداث سنوات قليلة مضت كانت القضية الرئيسية فيها التي شغلت الرأي العام محليًا وإقليميًا هي قضية سد النهضة، الذي شيدته إثيوبيا على النيل الأزرق قبل دخوله الحدود السودانية، وقد بدأت إثيوبيا بالفعل في أولى مراحل ملء السد، على الرغم من عدم الوصول إلى إتفاق بينها وبين مصر والسودان على نسب كل دولة وعلى المدد الزمنية لكل مرحلة، وعدم احترام اتفاقيات تقسيم مياه النيل المبرمة بين بريطانيا “كدولة مستعمرة لبلاد المنابع” وبين مصر “كدولة المصب” وذلك في عام ١٩٢٩والتي حددت فيها حصة مصر من مياه النيل، ومنح مصر حق الڤيتو في حالة إنشاء أي مشروعات جديدة على النيل وروافده، ومن بعدها الاتفاقية المكملة عام ١٩٥٩ بين مصر والسودان عند بناء السد العالي.
ولكن على الرغم من بدء ملء خزان السد إلا أن ذلك لم يعق الفيضانات أو يقلل منها، وربما كان السيناريو الأسوأ ما زال ينتظر فمن المتوقع ألا يقاوم السد هذه الفيضانات بعد امتلائه نظرًا لوجود عيوب إنشائية لم تقم بتصحيحها إثيويبيا..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ألم يحن الوقت للتعاون والاتفاق لما فيه مصلحة الجميع وحماية الأرواح والممتلكات؟
وبنظرة سريعة نلقيها على منابع نهر النيل نجد أنه يتشكل من ثلاثة روافد رئيسية وهي النيل الأبيض وينبع من بحيرة ڤيكتوريا الممتدة على حدود أوغندا وكينيا وتنزانيا، ويشكل حوالي ١٥٪ من مياه النيل ومياهه ثابتة تقريبًا طوال العام.
والنيل الأزرق وينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا ويشكل حوالي ٨٠٪ من مياه النيل ولكن مياهه موسمية ترتبط بموسم الأمطار في شهري أغسطس وسبتمبر وباقي السنة مياهه قليلة المنسوب.
إضافة إلى نهر عطبرة وينبع من هضبة إثيوبيا شمال بحيرة تانا ويشكل نسبة قليلة من مياه النيل.
يلتقي النيل الأبيض والأزرق عند مدينة الخرطوم بالسودان ويشكلان نهر النيل الممتد إلى مصر.
من هذه اللمحة البسيطة عن منابع وخواص روافد النيل نفهم أن مياه النيل غير ثابتة المنسوب طوال العام، وتعتمد عليها عدة بلدان كمصدر لمياه الشرب والزراعة، فماذا يمنعنا أن نجلس على طاولة الحوار ونضع خططًا تنموية شاملة لحوض النيل بعيدًا عن التحزبات والسياسات الخارجية؟
فهذا النهر يحتاج لتشييد العديد من السدود التي تهذب ثورته وتستجمع فيضاناته وتخزنها لاستخدامها وقت الجفاف بشكل عادل يخدم مصالح كل دول المسار..
نتمنى أن تتغاضى الدول عن النحرات والنزاعات وتجلس معًا مرة أخرى وتعيد حساباتها فتقيم اتحادًا يهدف إلى توحيد القوى فمصالحنا واحدة وأهدافنا واحدة وشعوبنا إخوة وأشقاء على مر التاريخ.
فالطوفان حين يأتي لا يفرق بين بلد وآخر، ويلتهم كل ما يقابله وجميعنا في نفس القارب.
التعليقات متوقفه