ليس لها عنوان…الشدو الأخير

0 1٬370

كتب: أ.د/ جودة مبروك محمد
إن أفضل ما يعبر عنه الفن هو الإحساس والرؤية النابعة من القلب، ولكن حالة من الشجن قد تنتاب الفنان فيعبر عن حالته النفسية بألفاظ محملة بالدلالات والإيحاءات النابضة تظهر صداها في الجماهير.

تقف قصيدة قارئة الفنجان على رأس القصائد المغناة، فترقى جملها إلى مستوى نفسي واجتماعي، وتحمل رموزها أفكارًا فلسفية، فهي وليدة من وجدان شاعرٍ عاش الحياة فنًّا ، وبغناء مطربٍ عاش الفن حياةً، وتأتي جملها تحسبها أفضل ما تجاوز الورق إلى لقاء الجماهير، وإن الأجرأ في تاريخ الغناء جملة (ليس لها عنوان)، لتعبر عن حالة فلسفية تشبه التيه في (اللامكان) ، فلا يجد العاشق حبيبه المجهول في أرضٍ أو وطن أو عنوان، فهو باحث عن السراب.

لقد تعددت أصوات هذه القصيدة، فمنها ما ينحو نحو المستوى النفسي، ومنها ما يتطابق مع الرؤية الفلسفية العميقة، ومنها ما هو طرح اجتماعي، لكن يبقى المستوى الرمزي حاضرًا لا يغيب، فكان أرحب بكثير مما قد يُظَنُّ، فالقصيدة لها أبعاد تناسب مستويات متنوعة، فهي تناسب المتلقين على اختلاف انتماءاتهم، وتعكس العرَّافة في صورتها الاجتماعية المعهودة في الشأن الشعبي، التي تقرأ الفنجان، وتقص حكايات المستقبل بما يخبئه من المآسي التي تنتاب المحب، وتصور صعوبة رحلة البحث عن شيء أشبه بالمستحيل:

ستفتِّش عنها يا ولدي في كل مكان

وستَسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن

وتجوب بحارًا وبحارًا وتفيض دموعك أنهارًا

وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارًا أشجارًا

وسترجع يوماً يا ولدي مهزومًا مكسور الوجدان

وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان

ويمتاز البعد النفسي في متلازمات الحزن والشجن والقلق الذي بدأ مع القصيدة من مطلعها، وتتصارع النبرة حتى الخوف، في قوله:

جلسَت والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب

قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب

يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب

لم تكن هذه الكلمات بحاجة إلى شيء بقدر ما تحتاج للصدق الفني من المطرب ، وليس أصدق من عبد الحليم حاظ بعد ربع قرن من الغناء، وتربعه على قلوب جماهيره، مما دفع الملحن محمد الموجي من إعطائها صفة الصوت الحاكي المتحدث بدون انفعال عضلات الصوت أو أن يميل المطرب إلى اللعب بحنجرته  بما يمتلكه من إمكانات قوية، فرأى أن الأمر لا تحتاج كل هذا العناء، فحكى المطرب الحكاية بشيء من التمثيل بالصدمة في قراءة العرافة للفنجان، بامتلاك للصدق الفني من عبد الحليم ، فإذا بالبعد النفسي يتراءى في حالة الحزن الملازم لمقاطع القصيدة، وحال القلق من الغيب ومحاولة الكشف عنه في رؤية العرافة، ولقد وظف الملحِّن مفردات نزار قباني في لحنه، وأرى أنه بهذه الأغنية قد وصل إلى قمة الربط بين الكلمة واللحن والآلة الموسيقية العازفة، فبمجرد سماعك للموسيقى التي تسبق المقطع الأول تحس صورة تمثيلية أٌقرب إلى الموسيقى التصويرية تنقلك إلى عالم الخوف والسحر، ويصور بأصداء الموسيقى جدلية الواقع والخيال؛ لذا جاء اللحن على مقام النهاوند المناسب والمعبر عن هذا الجو العاطفي الحزين الشجي.

وترتكز القصيدة في نقطة البحث عن الحبيب المجهول ، وعن مكمن السعادة المتوجهة في أوصاف امرأة مجهولة، فهي كالحلم سواء، وتعكس تجربة فنية جديدة في استطلاع سجل مستقبل العاشق، وارتباطه بامرأة لها أوصاف عجيبة:

بحياتك يا ولدي امرأةٌ عيناها سبحان المعبود

فمها مرسوم كالعنقود، ضحكتها أنغام وورود

والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا

قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا

وأما الرمز في هذه القصيدة فلم يكن بقريب من الجمهور (العادي)، يتمثل في تلك المقارنة بين المرأة في جمالها والدنيا في نعيمها، فالحبيبة هي الدنيا الساعي لها الإنسان والباحث عنها في شموليتها على المال والجاه والسعادة والخلود، ويظل يكابد إلى أن يموت، ولا يحقق مأربه منها، ويمنحه الشاعر لقب الشهيد؛ لأنه فدائي، دلالة على أنه وقع فريسة للدنيا التي قتلته، وتعبير (شهيدًا) من باب التعويض عن الفقد والعزاء في مصيبة الموت.

إن أغنية بدأت بالخوف من المكتوب وموت الفنان شهيدًا  كانت النفس الأخير للعندليب أمام الجماهير، أما الموجي صاحب اللحن فأداه بأكثر من طريقة في بعض المقاطع، وكأنه لا يريد أن ينصرف حتى يضع بصمته في تلحين هذه القصيدة، فهي بَوْحُ الوداع للجميع، فلا أظن أن الذي مات هو عبد الحليم، بل ماتت أشياء كثيرة،بموت عبد الحليم حافظ مات ملحنون، ومات موسيقيون ومات كتاب، حتى إن المنافسين له ماتوا وفقدوا حماستهم، وصدق من قال: إذا مات العصفور ماتت الألحان.

لقد سمعت وقرأت كثيرًا عما أحاط بهذه القصيدة من متاعب ومعاكسات لظهورها على مسرح الفن، وتشاؤم عبد الحليم من غنائها، وأنها تحمل مرارة الإحساس بالفقد والعدم كالجاري وراء السراب والمجهول.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق